الخميس، 16 مارس 2017

داخل سوكاندو (سرايا الجابي)

تجربتي الثانية مع المؤلف.
ومن وقتها، وأنا أعاني من عدم استساغة مسألة:
- أن (باب الحجازي) كان إنتاجه الأول حقًا!
- وأنه -حسبما يشير ظهر الغلاف- مؤلف شاب في الثلاثينيات من عمره.
هذا الرجل فارق مسافة كبيرة عن أقرانه، ورغم أن الرواية الأولى لم تخلو من مآخذ بالنسبة إليّ، إلا أنها كانت من نوعية المآخذ الطفيفة التي نخرج بها بعد إغلاق رواية لكاتب كبير، لا تنال من تقديرك للعمل ككل، أو تقلل من شغفك باقتناء جديده، وهو ما حدث بالفعل عندما عرفت بصدور عمل جديد لنفس المؤلف، فحرصت على العودة به أثناء زيارة معرض القاهرة الأخيرة، وبحمد الله، لم تخيب الرواية ظني كما توقعت، بل على العكس.
(سرايا الجابي) خلت من مشكلتي الكبرى في (باب الحجازي)، وهي أن اسقاط الأحداث السياسية الأخيرة على تاريخ قرية، يجعل المسار العام للأحداث متوقعًا، بصعود التيار كذا، ثم عودة فلول كذا، إلخ.
أما في هذه الرواية، يتكرر إنحياز المؤلف للقرى المصرية المهمشة القرن العشرين (واضح أنه مشروع كامل يضعه الكاتب نصب عينيه.. ويجيده تمامًا)، من خلال حكايات (السوكاندو) أو (القبو) الذي يسكنه خدم السرايا، الموصوله بذكريات قريتهم التي جاءوا منها جميعًا.
الشحات (فاروق)، (دياب)، (صبا)، (نعيم)، (مرعي)، (عبدون)، (مولانا الجابي)، (القس)، (أم الخير)، (فضيلة)، إلخ.
هناك العديد من الشخصيات المتبانية، تشترك في كونها مرسومة بشكل جيد جدًا، فتكاد تشعر -بحكم أنني أعيش في قرية- يشبهون أحد أعرفه، باستثناء عدم ارتياحي لوضع (دياب) و(الشحاب) في حالة بين أقصى والأقصى، الأول يمثل قمة التمرد والثورة، والثاني طوال 99% من الرواية، في حالة تامة من الخنوع والانبطاح.
لم استلطف مسألة وضع شخصيتين في حالة قطبية (أبيض أو أسود)، بعكس (فضيلة) مثلًا، التي كانت تمارس ما تمارسه بينما تخالطها احساس بالإثم وتأنيب الضمير، كانت.. أقرب إنسانية منهما في هذه النقطة.
اما فيما سواها، فأحببت (دياب) و(الشحات)، وكأنني كنت معهما في القرية، أشاركهما ظروف النشأة الأسرية المضطربة، لا يوجد ما يسري عنهما فيها سوى رهانات الضفادع، والدندنة بسيرة أبو زيد.
أعجبني المفارقة في بداية الرواية، من حالة التشابه والتشابط في بوصلة ميول السلطة الدينية، لدرجة أن يبارك القس كل الذاهبين إلى السرايا، نظرًا لغياب صديقه مولانا (الجابي)، عدا ابن القبيلة المبنوذة (دياب).. مع أنه الوحيد القبطي بينهم.
عندما خلت السرايا من مالكها، تحولت الرواية إلى عبثية لا تخلو من جمال، عن كيفية ملئ فراغ السلطان، وهندسة صناعة طاغية جديدة، مما ذكرني إلى حد كبير بـ (مزرعة الحيوانات)، وإن ارتحت لـ (سرايا الجابي) أكثر، فمن ناحيتي، لا وجه مقارنة بين شخصيات إنسانية حية، برمزية استخدام أبطال خنازير/ كلاب/ أحصنة.
لم استرح لسرعة الطريقة التي انتهى بها مالك السرايا، إذ كنت أستشعرها شخصية أكبر من تتتهي بسطور، نفس الشئ بالنسبة للمفاجأة الأخيرة التي اتضحت عن الأفندي، وجاءت بلا تمهيد أو أرضية كافية.
في العموم، يظل سرد الكاتب من أفضل ما يميزه، لا توجد أدني حذلقة أو استعراض لغوي، وفي نفس الوقت، لا أخطاء تحريرية من وقت للآخر، من التي تميز أي كاتب في بداية مشواره.
أخيرًا، نهاية الرواية المفتوحة جائت خاتمة مثالية كأقصى ما يكون.
خلال أعوام معدودة، أعتقد أننا سكنسب ساردًا من العيار الثقيل، جدير باتخاذ موقعه كامتداد لـ (المنسي قنديل) و(بهاء طاهر).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"