الأحد، 9 أبريل 2017

في الإقامة والترحال

أعرف جيدًا رواية السيرة الذاتية، ذات الخط الطويل المتصل، إلا أنني كنت أتسائل:
- هل من الممكن كتابة لمحات متفرقة من سيرة ذاتية، ثم دمجها مع موضوعات تذوب فيها الفواصل بين القصة قصيرة.. المقال.. التدوينة الشخصية.. إلخ؟
فيخرج في النهاية كتاب مقبول/ متجانس/ تحبه.
هذا الكتاب أثبت أن الإجابة "نعم.. ممكن".
لو تجرأت ذات يوم، على كتابة هجين مشابه، فاعلموا أن هذا الكتاب بالتحديد.. ما جعلني أقتنع. 

تخرج (ياسر عبد اللطيف) من قسم الفلسفة- جامعة القاهرة 1994م، قبل أن يعبر المحيط منذ عام 2010م، ليستقر في مدينة (إدمنتون) الكندية.


من يلقى نظرة إلى سيرته الذاتية، سيجد أن أنشطته كانت أوسع من أن يحتويها مجال واحد، فتعددت ما بين الكتابة الصحفية، السيناريو، الترجمة، الشعر، وغيرها.
إلا أنني تعرفت عليه حصرًا من خلال (في الإقامة والترحال).. الذي حمسني لترشيحه –الآن- كنموذج لأدب الرحلات المعاصر، مع أن نصف الكتاب فقط –كما يشي العنوان- ينتمي إلى حكايات السفر، بينما الآخر منوع كما سنشرح لاحقًا.
نشرت أغلب فصول العمل داخل ملحق (شرفات) بجريدة (عمان)، قبل أن ينصحه أصدقاء بجمعه في كتاب.
في الواقع، لا أرى أن كل التدوينات تصلح للحشر داخل كتاب، خصوصًا لو لم يجمع بينها رابط واضح.
رغم أن (في الإقامة والترحال) يفتقد إلى الميزة الأخيرة، إلا أنني أحببته جدًا، فأمتن إلى هؤلاء الأصدقاء الذين حثوا المؤلف على تلك الخطوة.
يكفي اللغة العذبة التي تبث الحياة في كل ما تنقله من أحداث وتأملات، فلا تشعر أن عيناك تتعامل مع سطور مقروءة فحسب، بل تتجول بين أصوات وألوان وحياة.
اتخذ الكاتب قرارً موفقًا بتأجيل الفصول ذات الأجواء الكئيبة، ليبدأ أولًا بما هو حميمي، كالحديث عن والده، الذي كان يفضل (صلاح عبد الصبور) عن (أمل دنقل)، ويحفظ جمل حوارية كاملة من روايات (ثرثرة فوق النيل) و(العائش في الحقيقة)، ثم غادر الابن لتلبية دعوة مهرجان أدبي في (كولومبيا)، تلاها حديث عن البرنامج التلفازي البريطاني"في حديقة الليل"، الذي يتبنى إيقاعًا ناعسًا يشبه أغاني المهد، بغرض تشجيع الأطفال على النوم، غير أن المؤلف أيقظنا معه في الصفحات التالية على إحساس عارم بالحرج، عندما قيل على لسان مغني تسعيناتي:
-إنت بتكلمني والناس بتموت.
ثم ضحكنا واغتظنا معه في نفس الوقت، بسبب مقلب جمعية محبي (فريد الأطرش).
عند هذا الحد، بدأت الذكريات الحالمة في الذوبان، ليطغى طابع واقعي قاس.
مجملًا، أستطيع تقسيم فصول العمل إلى:
-حكايات السفر: بداية من مؤتمر كولومبيا، إلى الموقف المحرج على شاطئ (فالنسيا)، أشهى بسطرمة تناولها المؤلف في (حلب)، اختلطت –على حد تعبيره للأسف- بطعم العنصرية البغيضة، بالإضافة إلى بلوغ ولاية "نيو أورليانز" الأمريكية –بالصدفة- يوم "ماردي جرا"أو "ثلاثاء الدسم".
-التدوينـات الشخصيـة: عن الأب، احــتراق منـزل الجـد، العـم
الذي يتم اكتشاف ذكراه بين أوراق (الدفترخانة)، المحمية الصحراوية التي تقع في أطراف المعادي، مقالب الطفولة في مدرس الزراعة.
ثم يتقدم بالزمن ليصف لنا مواقف حدثت أثناء حياته المهنية، كإعلامي.
-المقالات: التي تتنوع ما بين دردشة عن أصل الـ (أزاوزة)، برنامج الأطفال البريطاني، شوارع المدينة، إلخ.
-شخصيات: القرآني الذي يعيش في المقابر، ويعتبر الخمر مكروهة وليس محرمة، (عماد الدماطي)، خطاط ورسام السجن، الذي انتهت حياته على، (محمد عصام).. الوسيم المتأنق سابقًا.. المقعد المستول حاليًا، الساقية ذات الأصول الهندية (فاطيما) التي تغلبت على مشكلة فيتامين (دال)، (أسامة الديناصوري)، وغيرهم.
حرت في تصنيف هذه الفصول، ربما يحلوا لي اعتبارها أدب رحلات كذلك، لكنها ليست إلى جغرافيا أو بلدان، بل إلى أبعاد شخصيات إنسانية لأشخاص قابلهم المؤلف، وفي نفس الوقت، يتوفر في تناوله لهم شروط القصص القصيرة كأقصى ما يكون، خصوصًا في إنه يجيد اختتامها بسطور في الصميم.

*******

- المقال منشور على صفحات العدد الأول من سلسلة أدب الرحلات: (لأبعد مدى).
لتحميل وقراءة العدد كاملًا: اضغط (هنا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"