الأحد، 10 ديسمبر 2017

ساعات مسروقة، بصحبة مؤتمر (المصطبة)

-إنهاء مسودة الكتاب.
-الذهاب إلى الحلاق.
كلها أولويات لم أحب تأجيلها، لكنني مُضطر.
توجد فعالية ثقافية في (البيت الريقي) قرب معبد (كوم أمبو)، على ساعة وربع من قريتي.
في المعتاد، لا أحضر أي مناسبات مماثلة في مدينة (أسوان)، بسبب صعوبة المواصلات ليليًا.
أما الآن، بما الحدث يجري نهارًا، داخل حدود إقليمي، سيغدو -من الوقاحة- أن أتملص.
بالمناسبة، رغم أن المعبد ينتمي جغرافيًا إلى نفس المركز الذي أعيش فيه، غير أنه لا يقع قرب الطريق السريع، بالتالي، لم أراه سوى ثلاث مرات.
عندما مرت السيارة أمام مدرسة (محمد متولي الشعراوي)، تذكرت المرة الأولى.
هنا تمت استضافة تصفيات المناظرة والخطابة، كان الفريق يتضمن (أبو ظاهر) و(أحمد) و(شيماء) و(نهال)، كما احتوى صف المعارضة -بالتحديد- على فتى نحيل منفعل، تكاد تشعر أنه على وشك سحب كرسي، والهبوط به فوق زءوس زملاءه.
فور الهبوط من المسرح، ساروا جميعًا لافتتاح معرض الصحافة المدرسية، كان الولد النحيل قد هدأ قليلًا، فحازاته السيدة المسنة (عضوة لجنة التحكيم) أثناء مشيه، قبل أن تلقى تعليقها حذر:
-
لماذا أنت هكذا؟!

الذكرى الثانية، كانت بانتظاري عند الوصول للمرسى المقابل للمعبد.
فوق ظهر أحد البواخر العائمة، وقف شاب عشريني متحدثًا مع أخرى ذات شعر مموج.
امتلأت الباخرة بالوجوه المصرية الشابة عمومًا، فاستشعرت وكأنني عشت هذا المشهد من قبل، مع فارق أن عددنا كان أكبر بكثير.
بالتحديد 100 شاب، ضمن رحلة تابعة لمكتبة الإسكندرية .



أثناء مروري منذ عامين بنفس الكمين أمام المعبد، بصحبة أحد أعضاء ذاك النادي المئوي، طلب الأمن هوياتنا الشخصية.
فقرأوا في بطاقة زميلي المصور الفوتغرافي:
-
أحمد سعيد.
بطاقتي:
-
ياسين أحمد سعيد.
علق أمين الشرطة بذكاء:
-
أبيك؟
كان هذا فوق طاقتي على الاحتمال بصراحة.
 (2)

سأل بائع التذاكر في المعبد:
-
أأنت طالب؟
-
نعم.
بعد أن قطعها بالفعل من دفتره، تذكرت.
-
مهلًا، نسيت أنني تخرجت مطلع هذا العام.
اضطر الرجل لقطع تذكرتين من فئة (الطلبة)، بما أنهم كلاهما يوازيان ثمن تذكرة زائر واحد عادي، فنصبح متعادلًا.
-
اخبرهم عن سوء التفاهم هذا، عندما يسألونك على البوابة، عن سببك حملك لاثنين.
انصرفت مستصعبًا طلبه الأخير صعب، هل سأشرح هذا كله، كلما أمر من بوابة، يقف أمامها أمين شرطة، ثم أنني لا أحمل شحنة سلبية -غالبًا- تلك الفئة الأخيرة.
لذلك، كلما أشهرت التذكرتين، وسألني أحدهم، اختصرت الإجابة في إشارة عضلاتي المفتولة، و..:
-
لأنني أهم وأضخم من أن يمكن التعامل معه كـ "شخص واحد".
(3)
لم أؤكد لزملائي -يقينًا- أنني سأحضر.
فضلت تركها كـ (مفاجأة)، مع خالص أمنياتي ألا تغدو مفاجأة سيئة.
- ألو.. أين أنتم؟
- داخل المعبد، في الطريق إلى متحف (التماسيح)، هل وصلت؟
أجبت بعبارة مراوغة عائمة، بما معناه (أنني في الطريق)، ثم أغلقت الهاتف.
رأيتهم على بعد مائتي متر، فكان أمامي حل من اثنين:
- الدوران مع الممشى المؤدي للمتحف.
-القفز من فوق الإفريز مباشرة .

 
طبعًا، لا داعي لذكر أي الطريقين اخترت، المهم أنني هرولت حتى وصلت إلى محازاتهم.
واضح أن أحدهم لم ينتبه بعد، فراقني ذلك أكتر.
وضعت يدي في جيبي الجلباب، وأكملت المسير مستمتعًا بالحوار الدائر:
-من المتصل؟ أكان أحد أفراد العائلة يستعجل عودتك؟
- كلا، زميل قديم، اسمه (ياسين)، قادم خلال ساعة، سأعرفك به.
- لماذا تأخر إلى هذا الحد؟
وجدتها لحظة مناسبة للتدخل، فقلت عبارة عميكة على غرار:
-أن تأتي متأخرًا، خير من ألا تأتي أبدًا.
أحب لحظات الاقتحام المفاجئ، فقط من أجل تلك رؤية نظرات كتلك.
يا سلام، لو علمت أن أحدهم (قطع الخلف) من الخضة؟! سيتجاوز ذلك أكثر مما تمنيته بكثير.
(4)
ندمت على ضيق الوقت، الذي أدى إلى زيارة المؤتمر، قبل الذهاب إلى الحلاق.
في المعتاد، ليس لدي صبر كافي للاعتناء بأي شيء يخص المظهر، لذلك أفضل إبقاء شعري قصيرًا طوال الوقت.
فكنت أراهن أنني سأتلقى تعليقًا ساخرًا من الرفاق القدامى هناك.
بالفعل، لم تمر ساعتين، قبل أن يقول أحدهم ببراءة:
- غريب! أول مرة أراك بشعر طويل بعض الشيء؟ لطيف الستايل.
ملحوظة:
- هناك عدة كلمات تستطيع نسف ثباتي الانفعالي في لحظة، على غرار: الشتيمة بالأم/ السخرية من لدغتي في الراء/ بالإضافة إلى لفظة (ستايل) تلك.
- أنا؟؟ أنا تقول لي (ستايل)؟؟! هل أبدو لك كرجل (ستايل(.
- مالك؟ أومال لو قلتلك (نيولوك)، كنت عملت إيه؟!
- هاااار أسود، مهو دا اللي ناقص بقى؟؟!
(6)
لم نجد من يلتقط لنا الصورة الفوتغرافية الجماعية، فاستوقفنا أول عابر سبيل، الذي كان للمصادفة سيدة مهذبة من المشاركات في المؤتمر.
نظرًا لسوء الإضاءة، قررنا أن نجعلها تصورنا بهاتفها، على أن ترسلها لنا مباشرة.
كنا لزجين جدًا بصراحة.
المهم، وكأن هناك مؤامرة تهدف لعرقلة التصوير بكل الطرق، وحتى بعد نجاحنا، عجز هاتفها عن إلتقاط بلوتوث موبايلي.
بعد دقائق، استجاب أخيرًا.
فقلت لها ببراءة:
- أ. يوتا.
كان ذاك اسم البلوتوث الذي ظهر أمامي، بدون كلمة (أستاذة) بالطبع، التي أضفتها من عندي، على سبيل التظاهر بالرسمية.
في الواقع، دخلت لحظتها في صراع نفسي شنيع.
نصفي المسن.. الوقور، امتعض:
- أهذا جزائها أن عطلت نفسها لأجلكم؟
أما الآخر الطفولي الشرير، فركل الأرض، ملحًا:
-أرجووووك، هذا أكبر من قدرتي على المقاومة، اسمح لي بتعليق مازح واحد.. واحد فقط.
(7)
تم إطلاق المؤتمر لمدة يوم واحد، بإمكانيات ذاتية، احتفاءًا بورشة أدبية أقيمت في قصر ثقافة (دراو)، تمخض عنها كتاب جماعي، قام المشاركين بطبعه على نفقتهم الخاصة، أو لأقل (المشاركات)، لأن الفريق يضم نحو سبع أو ثماني فتيات، إلى جوار شاب واحد.
كما شهد لفتة طيبة، قام جميعهم بإعداد هدية مغلفة ضخمة، ومنحها للمشرف على الورشة.


ألمح أحد الحضور إلى أن اسم المؤتمر (المصطبة: التجريب وكسر الإطار)، فلابد من فض إطار المغلف، كي يعرفوا ماهية الهدية.
اتضح أنها آية قرآنية في برواز كبير.
سمعت صوت مداعب في الخلفية، يتصنع الأسى، معلقًا:



-عشرين عامًا في نادي الأدب، دون أن تذكرني أحدهم ولو بكارت صغير، بينما قضى (ياسر سليمان) -اسم مشرف الورشة- معهما شهران فقط، وهذه هي النتيجة.


هذه الصور الشخصية هي أبرز ما عدت به، خصوصًا أنها برفقة أشخاص أعرفهم مسبقًا.
- أ.(علية طلحة): التي فوئجت الآن فقط أثناء كتابة هذه السطور، بأنني لم أهنئها بجائزة أفضل مشرفة نشاط في وزارة الثقافة.
- (أحمد أبو خنيجر): الأديب الكبير الذي سمعت عنه لأول مرة أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية، وقتها التفت إليّ مدرس اللغة العربية، وقال:
-هناك كاتب من قرية (الرمادي) حصل على جائزة الدولة التشجيعية، وترجمت عدد من أعماله، مما يعني أن هناك فرصة لأي شخص مخلص لشغفه، حتى لو انتمى لقرية بعيدة على الحدود.
وختامه مسك، مع الزميلة (تيسير النجار)، صاحبة المستقبل الواعد، التي بدأت كبيرة، فكانت أوائل تجاربها في النشر، من خلال دوريات بوزن (أخبار الأدب)، (الثقافة الجديدة)، (المساء)، (الحياة)، إلخ.
(8)   



يعجز أي مثقف أن يرى خطأ لغويًا في لافتة أو إعلان، إلا ويشير إليه مازحًا.
تجاهل المسألة مهما كانت بسيطة، يفوق قدره أي منا على المقاومة.
أشار أحد الزملاء إلى وجود هفوة في ملصق المؤتمر،  فكلمة (الاطار.. وكسر الإطار) يفترض أنها همزة قطع، وليست وصل.
قال أ. (يوسف فاخوري):
- لعلهم قصدوها، كنوع من كسر الإطار.

سعدت بالتعرف على هذه القامة في الواقع، يعتبر (فاخوري) أحد أقطاب القصص القصيرة في (أسوان) و(مصر).
ثم عرفت عنه أكثر عندما صعد إلى المنصة، ليتلقى درع التكريم من المؤتمر.
قال كلمة قصيرة ممتعة، أتذكر منها كلامه عن (الورداني) و(المخزنجي)، وذكريات تجاربه في المسرح، قبل أن يهجرها اقتناعًا بأن الأخيرة تحتاج ورشة جماعية حتمًا.
- إنفراد شخص بكتابة مسرحية، يشبه الانصياع لحكم ديكتاتور.
ضرب مثلًا بمسرحية (لا أتذكر اسمها للأسف) كلف فيها فرد فريقًا بجمع معلومات عن حرب (فيتنام) من وجهة نظر غير الامريكيين في جميع أنحاء العالم، تم تضفيرها وصياغتها في نص لا يزال الكاتب الكبير يذكر شاعريته وبعض عبارته إلى الآن.
-"عندما قال أحد الأبطال: أشم شيئًا يحترق، أرجو ألا يكون عقلي".

من الأعمال المؤثرة في أ. (يوسف) كذلك، كلمنا عن نص لكاتب ياباني حاصل على (نوبل)، كتبه في سن السادسة والعشرين، بعنوان -لو ذاكرتي دقيقة- (الجميلات النائمات).
يتحدث عن رجال عجائز يستشعرون الحينين لأيام فتوتهم وشبابهم، فيقرروا خوض تجربة النوم ليلة بجوار عذراوات عاريات، دون أن يفعلوا شيئًا سوى محاولة تلمس طريق الأحاسيس والذكريات القديمة.
يبدو أن هذا الجزء من كلمة أ. (يوسف) أصاب أحد الفتيات الحاضرات بالحرج، فدارت ابتسامتها الخجلي بمداراة وجهها، ثم الميل جانبًا، والنظر إلى أسفل يمين كرسيها.
من ناحيتي، لم أر في الحديث ما يدعو إلى كل هذا الحرج، على الناحية الأخرى، كان يمكن أن تخبئ إنفعالها بطريقة أفضل، إذ لم تحتاط لأن حركتها ستلفت نظر الصف الذي يقبع خلفها، وقد تلتقي عينها في عين من يقع كرسيه ورائها مباشرة، فيتسبب ذلك في مضاعفة حرجها أكثر.
خصوصًا، لو كان هذا الشخص رجل، بالذات لو لم يكن من النوع الذي يستطع مقاومة ابتسامته الساخرة من ردة فعلها، كما سيزداد الأمر فداحة بالتأكيد، إذا كان هذا الشخص هو أنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"