الأحد، 30 يوليو 2017

مقابلة شخصية سخيفة داخل جامعة ج الوادي

بدأ كل شيء ببريد إلكتروني، يحمل إشعارًا، حول:
- المكان: مبني رئاسة جامعة (جنوب الوادي).
- الزمان: الاثنين 24 يوليو 2017م، من الساعة 10 ص إلى 4 م.
- المناسبة: مقابلة شخصية، لتحديد القائمة النهائية للمشاركين في أحد الفاعليات الثقافية.
استقللت القطار في العاشرة والربع، وكان من المفترض أن يصل القطار إلى (قنا) في الثانية، أو الثالثة على الأكثر، لو وضعنا في الاعتبار هامش التأخير المعتاد مع (سكك حديد مصر)، لكن (س ح م) أثببت قدرتها على الاحتفاظ بعنصر المفاجأة، إذ دخل القطار رصيف (قنا) في الرابعة بالضبط، أي أنني كنت (ألعب في الوقت بدل الضائع).

جدير بالذكر، أنني منذ وصول الرسالة، ترددت في خوض الرحلة برمتها من الأساس.
- أولًا: مثلي مثل غيري، أسير لحالة اكتئاب عامة، لا تترك لي مجالًا أو طاقة للحركة.
- ثانيًا: لدي خبرات بالغة السوء مع المؤتمرات التابعة لوزارة الثقافة، غير أن زميل صحفي، أبلغني أن المسئولين عن الفاعلية -هذه المرة- يمثلون دماءً جديدة من خارج الوزارة.
يظل الجانب الإيجابي الوحيد في كل الأحوال، طالما أن الفاعلية تخص الثقافة، وبما أنه حقل محدود، يعرف معظم أهله بعضهم بعضًا، فبالتأكيد سأقابل وجوه مألوفة أوحشتني، من رفاق المجال.
- الساعة الرابعة وعشر دقائق:
رغم تشككي في الوصول بالوقت المناسب، قررت أن أؤدي واجبًا أخيرًا تجاه نفسي، بأن أكمل الطريق، خصوصًا أنني أضعت 6 ساعات في المشوار فعلًا، حتى وصلت إلى هنا، فلا ضير من تبديد نصف ساعة أخرى.
قيل لي في الميكروباص: دعك من بوابة (1)، فمبنى رئاسة الجامعة، أقرب لرقم (2)، للأسف، السائق لا يكمل يتوقف أمام البوابة بالضبط، فستضطر إلى السير بضعة مئات من الأمتر.
هبطت من المواصلة، ثم مشيت نص كيلو تقريبًا، حتى بلغتها، وبمجرد أن تجاوزت الباب، قابلت زميل قديم انتهى من المقابلة الشخصية لتوه، طمأنني أن اللجنة لم تنصرف بعد.
- أترى المبنى الأصفر هناااااااك؟ مبني (رئاسة الجامعة) يليه مباشرة.
توكلت على الله، وبدأت مسيرة كيلو متر آخر كامل، داخل صحراء جرداء، الأسوأ، أنني لا أرى مخلوق آدمى على مرمى البصر (لاحظوا أننا في أجازة نهاية العام)، كي أتأكد إذا ما كنت على الطريق الصحيح أم لا!
عندما وصلت إلى المبني الأصفر، وجدت لافتة تحمل اسم (بيت الطالبات)، بينما يجاوره (بيت الطلبة) تقريبًا.
كلاهما خاوي من أي بشر!
شعرت بأن هناك أمرًا على غير ما يرام، من حسن الحظ أنني أملك رقم الزميل الذي قابلته على البوابة، فاتصلت.
- ماذا؟؟ (بيت الطالبات)؟؟ أين كنت تنظر يا صاح؟ لقد كنت أشير لك على المبني الأصفر أقصى اليسار، الخاص بكلية إعلام.
- ممم (إعلام).. أذكر أنني مررت عليه من 400 متر.
- بالضبط، هو ذاك، مبني رئاسة الجامعة خلفه مباشرة.
- (استمررت وكأنني لم أسمعه) أي أنني قطعت وسأقطع 800 متر، سيرًا في اتجاه خاطيء.
اعتذر الصديق عن سوء الفهم، كما أنني أعرفه منذ زمن طويل، إنه يملك من الاحترام والذوق، ما يجعلك تعجز عن التضايق منه أبدًا، بالمناسبة، هو من أخبرني عن وجود الفاعلية، من الأساس.
احتسبت ما يحدث ضمن (تكفير سيئاتي)، وعدت إلى حيث (كلية إعلام)، ثم أكملت الطريق إلى مقر (الرئاسة) بعدها.
لكن حتى داخل الطابق الأرضي هناك، لم يكن هناك بشرًا يمكنني الاستفسار منهم.
الشيء الوحيد الدال على أن المكان مأهول، ثمة أصوات مختلطة خافتة تأتي من الأعلى.
كلما صعدت، زادت وضوحًا، حتى وجدتني أمام شباب من نفس سني.
قدمت إليهم بضعة نسخ من مطبوعة (لأبعد مدى) على سبيل التعارف، فوجدت أحدهم يحدق في صورتي المنشورة داخلها، ثم يقول:
- أنت ياسين؟ ألا تذكرني. أنا السنوسي.. محمد السنوسي.. التقينا في 2014م.
احتجت ثوانٍ حتى بدأت في التذكر بدوري، كنت واثقًا من مقابلة مع أحد الزملاء الذين التقيتهم من قبل، يااااه، أي مفاجأة تلك! مر على مقابلتنا ثلاثة أعوام كاملة، ولا زلت أتذكر كل دردشنا فيه بالضبط، وقتها.
- أتعلم؟ لم أتذكرك إلا عندما رأيت صورتك في (لأبعد مدى).
تلقيت العبارة وكأنها لطمة:
-أي منطق هذا؟ أتتعرف على من خلال صورة باهتة بالأبيض والأسود؟ مع أنني -الأصل- أقف أمامك! من لحم ودم!
في تلك اللحظة، اقترب منسق الفاعلية، ينادي أسماء المجموعة الجديدة المدعوة للدخول.
اعترضت فتاتان من أسوان، من منطلق أنهن تأخرن أكثر من اللازم.
اتضح لي وجود قائمة انتظار ليست بالهينة، في نفس الوقت، تستعجل (لجنة المقابلة) إنهاء عملها، حتى تحزم حقائبها عائدة إلى (القاهرة).أخبرت المنسق أنني وصلت توًا، فما العمل!
قاطعني السنوسي، باقتراحه الففوي:
- لا عليك، ستدخل برفقة مجموعتنا.
عظيم، انتهينا من هذه النقطة على الأقل.
غير أن موظفًا، اقترب يخبرني بحسم:
- ممنوع (يشير إلى مطبوعة "لأبعد مدى" في أيدينا) توزيع مطبوعات داخل الجامعة.
                                               ********
أمام لجنة التحكيم..
تحدث أحد الشباب... وعرف نفسه بأنه مخرج مستقل، وأن مشكلته الأساسية في مشاريعه:
- الافتقاد إلى الورق (السيناريوهات).
كدت أجن، وهممت بالتدخل في الحوار، لكنني انتبهت إلى أن ذلك سيغدو في منتهى قلة الذوق، إذن.. سأنتظر حتى يخرج كلانا، لأتبادل معه الحديث.
أتعلمون؟ لا أؤمن بمدى الجدوى المباشرة لمثل تلك المؤتمرات، لكنني شديد القناعة بتأثيرها غير المباشر، يكفي ميزة؛ التعارف بين زملاء، قد يستفيد أحدهم معلومة من الآخر، تغير نظرته 180%.
مثلًا؛ هذا مخرج يعاني مشكلة في السيناريوهات، ويقول أنها المشكلة الدائمة في مجاله بالكامل، بينما -بدوري- أقبع في الطرف الآخر من العالم، أهوى التأليف، وأنتمي لدنيا تمتلئ بالعشرات من أصحاب النصوص، يعجزون عن إيجاد مخرج مستقل واحد، لتنفيذها.
فماذا عندما يلتقي العالمين لأول مرة؟!
حتى بفرض فشل المؤتمر إجمالًا، ستظل ثمرة ذاك التعارف -وحدها- بمثابة نجاح كافٍ.
                                             **********
أخيرًا جاء دوري أمام اللجنة، المكونة من (اليسار، شاب عشريني في مثل عمرنا، اليمين.. رجل أكبر سنًا نظارة طبية، في المنتصف.. أسمر يحمل صلع خفيف أعلى رأسه).
في البدء.. طلبوا تعريفًا موجزًا بنفسي.
لطالما كان هذا السؤال مربكًا بالنسبة، هل أنا فني أشعة؟ أم كاتب هاوي في مجال الخيال العلمي والغرائبيات؟ أم إداري بمبادرة (لأبعد مدى)؟ أم مدون، أم معد فيديوهات باعتباري بدأت تلمس طريقي في هذا المجال مؤخرًا؟!!
قررت معالجة جفاف حلقي أولًا، كي أستطيع الحديث بشكل طبيعي، فطلبت جرعة ماء، من الزجاجة الموجودة على طاولة اللجنة، وبعد أن التقطت أنفاسي المبعثرة جراء الكيلومترات السابقة، ذكرت ثلاثة أو أربعة من اهتماماتي، ففوجئت بالرجل في المنتصف يسأل باسمًا:
- هل تخبرنا بكل ذلك، كي تشاركنا المعلومات حول خبراتك السابقة، أم بغرض التتباهى و..؟
تبخرت الجملة السابقة في فضاء القاعة، فلم يرن في أذني سوى كلمة (للتباهى) تلك!
كان الرجل هو الوحيد الأسمر -مثلي- بين لجنة التحكيم، يبدو طيب القلب، يتحدث بمزيج باسم بين الفصحى والعامية، يذكرني -نوعًا- بـ (عمر البشير)، باختصار.. أحببته.. بقدر ما استفزتني صياغة العبارة.
مثل هذه البدايات، تجعلني أدرك أن المقابلة انتهت من قبل تبدأ.
أجبت من بين أسناني:
- يا أفندم، لست مصابًا بمركبات نقص، أو احتاج إلى اثبات شيء لأي شخص، فما الداعي الذي يجعلني- إذن- (أ تـ بـ ا هـ ـى)!
- لماذا أنت عصبي هكذا؟!
جاء تعليق ذات الرجل مرفقًا بنفس الابتسامة.
- وليكن.. يمكن لحضرتك أن تنس كل ما أخبرتك به حول "اهتماماتي"، ولندخل في الموضوع ذاته.
قصدت (طبيعة المشروع) الذي يفترض أن يتقدم به كل شاب منا، للمشاركة.
حاولوا -من جهتهم- إعادتي للسؤال الأول، لكنني أصررت..
- هناك جانبين أساسين، الأول (مبادرة لأبعد مدى)، وهي عبارة عن....
حاولت الإيجاز قدر الإمكان، نظرًا لأنني فقدت أي شهية للاسترسال، أو حتى مجرد التواجد لوقت إضافي في تلك القاعة.
- الجانب الثاني، يتعلق بحقيقة؛ أن تأثيرنا -كوسط ثقافي- محدود جدًا على الناس، فأغلب الأنشطة (معارض تشكيلية، مسارح، مناقشات) تدور في قاعات مغلقة، فحاولنا تنفيذ خطوة صغيرة ضمن اتجاه (الخروج بالثقافة إلى الشارع).
اسميناه؛ مهرجان (ونسة)، كان ذلك في 2014م، أعتقد أنني قابلت (السنوسي) إبان تلك الفترة، ودردشت معه في الأمر، أتذكر يا (سنوسي)؟
ذهبنا بالملف إلى قصر الثقافة، فقيل لنا "نستطيع معاونتكم في أي نشاط، طالما يقام داخل هذه السور، أما في الخارج، يلزم تصريحات من مديرية الأمن و.. و.."، ذهبنا إلى ش (عباس فريد) حيث المديرية، فأجابوا بأن المسألة لا تقع في نطاق تخصصنا، عليك بالتوجه إلى إدارة (الأمن الوطني) في المبني المجاور.
بدون أن أفكر كثيرًا: هل ما سأفعله (إصرار) أم (غباء)! نعم.. دخلت (الأمن الوطني)، فقيل لي أن: أنهم لا يخاطبون الأفراد، بل يجب أن أتقدم بطلب تصريح من مقر المحافظة، ثم تقوم الإدارة هناك بمراسلة (الأمن الوطني).
تقدمنا بتصريح، ولم يصلنا أي رد.
على أي حال، أؤمن بأسطورة (التوقف نتيجة التضييق أو قلة الإمكانيات)، لو حبست أحدهم في برميل سيستطيع أن يكيف -بمرور الوقت- على استغلال وتوظيف تلك المساحات بالغة الضيق، في فعل شيء ما.
استئجارنا كافتيريا في مكان مفتوح على النيل، فتلافينا بذلك -إلى حد ما- مشكلة التصريح.
إذا مر أحد الأمنيين أثناء الفاعلية، نستطيع مخاطبته من منطلق أن ما نفعله لا يختلف عن أي أصدقاء يحتفلون بمناسبة خاصة، فأين المشكلة بالضبط؟
ربما لا تبدو هذه الطريقة آمنة تمامًا، لنا أو للجمهور.. لكننا قررنا المخاطرة على أي حال.
للأسف، أقيمت الفاعلية لمرة واحدة فقط، ولم نكررها ثانية، بناء عليه، هو الملف الأساسي الذي أتقدم به للمشاركة في المؤتمر، مع أنني -بصراحة- لست متفائلًا، منذ ربع ساعة -بالضبط- كنت أقف خارج القاعة، أمنح زملائي نسخ من مطبوعتي الأدبية، فإذا بموظف يخبرني بأن هذا ممنوع.
عجزت عن لومه بالطبع، لأنه ينفذ التعليمات لا، لكن.. ألا ترون؟
نحن هنا، في جامعة، أنتظر دوري في مقابلة شخصية تخص مؤتمر ثقافي، ثم يتم لفت نظري إلى أن توزيع مطبوعة "ثقافية"!
صمتت.. كنت أقصد: البحث عن توصيات لتشريع أو لوائح تسهل عمل المبادرات المستقلة في الشارع، مع أنني -ذاتي- أعلم أنه أمر "شبه مستحيل"!
العقلية الأمنية هي التي تحكم، فلا أظن أن وزير الثقافة ذاته، يملك سلطة أمام أقل مدير (أمن)، يمكن للجميع تأمل ما حدث في (الفن ميدان) على سبيل المثال؟
سألني ذو النظارة الطبية:
- لماذا فكرت في حضور المقابلة بالجلباب؟
لن أسيء الظن..
في الأغلب، يتسائل الرجل فحسب، حتى زميله الأول الذي قال (تتباهي)، أخمن أنه كان يمازحني لا أكثر.
أحسن الظن -دائمًا- بالنوايا، لكنني أتصرف على أساس الظاهر فقط، والظاهر أننا طرفان، لم ولن ترق طريقة أحدنا للآخر منذ اللحظة الأولى، فقررت -لاإراديًا- أن أستمر على أساس هذا العقد غير المكتوب:
- رغم أنني أسافر به كثيرًا، من الغريب أنني لم أسمع ذاك السؤال المباشر داخل الجامعة الأمريكية ذاتها، فأين أسمعه! الآن.. هنا.. في جامعة (جنوب الوادي) بالصعيد!
انتهت المقابلة إكلينيكيًا، غير أنهم أرادوا توديعي بنصيحة مفيد، عبر عنها صاحب النظارة الطبية، بكلمتين:
- لا تتشائم.
- يا حضرة المحترم، لدي زميل سكندري، مصور، وصلني -توًا- خبر تجديد حبسه لمدة
15 يومًا، على ذمة التحقيق، أي مصور فوتغرافي عمومًا، ينزل بكاميرته إلى مكان عام، يضع في حسبانه أنه قد لا يبيت في منزله، وكأنه لا يمارس فنًا، بل انتحاري خرج لعملية استشهادية في دولة (احتلال)، ثم تطلب مني حضرتك (تـ فـ ا ء ل).
لم أكن أعلم هوية لجنة التقييم التي كنت أجلس أمامها، فيما بعد، أخبرني الرفاق بعد خروجنا مباشرة، أن أولهم عشريني متحمس، ينتمي للجنة الشباب داخل المجلس الأعلى للثقافة، أما الأوسط (الأسمر)، فذو نشاط واسع في مجال المجتمع المدني، ويعمل بإدارة العلاقات العامة لجامعة ج الوادي، ذو النظارة الطبية.. دكتور في كلية (علوم).
علقت بتلقائية:
- ممم حتمًا أنتم مخطئين يا رفاق، إذ يفترض أنهم فتحوا باب التقديم، لشباب في تخصصات (الأدب، الفنون، التراث، إلخ)، فكيف يجلس أمامهم لتقييمهم: دكتور في كلية (علوم)، ومسئول علاقات عامة.
عمومًا، كنت قد تحررت من الأجواء الخانقة بالداخل، وأغلقت تلك الصفحة بالفعل، ها أنا أقف الآن.. مع سنوسي.. والمخرج.. وخمسة أخرون.. نتبادل التعارف والمزاح، بالإضافة إلى صور (السيلفي).
وجدت أحدهم يقلد طريقتي، مرددًا: (أتذكر يا سنوسي).
لم أتضايق، كنت حائرًا فقط.. وسألته:
- ما المضحك في تلك الجملة؟ يجعلكم تتذكرونها بالذات؟
- طريقتك ككل راقت لنا، إلا أننا قبل هذه الجملة بالذات، كنا نستمع إليك، وجدناك بدأت الحديث عن المشروع بعصبية مكتومة، ثم بدأت تتحرر لتتحدث بثقة وأريحية، من المعتاد أن ينظر الجميع إلى المتحدث (أيًا كان)، ففوجئنا بك تلفت إلى (السنوسي) على بعد أمتار، وترسل بؤرة انتباهنا تجاهه. هو نفسه فوجئ بذكر اسمه، الأدهى أنك اندمجت لدرجة أنك لم تنتظر رده حتى، وعاودت قصتك بطريقة عادية.
ضحكت رغمًا عني، واعتذرت للسنوسي.
كنت أتحدث بتلقائية، فلم أنتبه لكل ذلك.
جاء وقت الخروج من صحراء الجامعة، هناك أقل من كيلو متر يفصل بين البوابة (2) والطريق الرئيسي، فما العمل؟
وجدنا المخرج إياه، يعرض علينا أن نصطبحه في سيارته.
سرنا معه إلى حيث تركها، فرأينا واحدة موديل (128) تسع 4 أفراد، بينما نحن 7، نصفنا ممتلئ الجسد.
استأذنتهم في الانصراف، رفعًا للحرج.
لكن المخرج أصرّ.
- كيف؟ السيارة قد تسع ثلثينا بالكاد على أقصى تقدير.
- بل سنسقلها جميعًا.
فيما بعد، سأعتاد الثقة في مخيلة المخرجين، لأنها حملتنا جميعًا بالفعل، في مشهد كنت أظنه مستحيلًا.
أربعة حشروا أنفسهم في المقعدين الخلفيين، بينما غرست نفسي بين السائق وسنوسي في الأمام، فقررت استغلال الفرصة، وأخرجت الموبايل:
- فتحت البلوتوث عندي، فارسل السيلفي الذي التقطناه خارج القاعة، (الآن).
ضغطت على كلمة (الآن)، لأن صاحب السيارة هو قام بالتصوير، وقد يتحجج بأعذار فارغة، على غرار: أنه مشغول في القيادة، وقد يدخل في شجرة.
- لا تقلق، سنجد بعضنا على الفيس عندما نعود، وأرسلها لك إلكترونيًا.
- هذه أكثر خدعة مكررة سمعتها في حياتي، لا أحد يرسل صورًا بعد رحيله.
قرر الزميل أن يطاوعني، فالتقط هاتفه، لأرى -في المقابل- أن انتباهه مع عجلة القيادة اختل لثوانٍ.
قلنا للسنوسي بلامبالاة:
- راقب الطريق أنت يا سنوسي، فإذا وجدت أننا على شفأ الدخول في شجرة، الفت نظرنا قبلها.
النهاية السعيدة.. أنني استلمت الصور.. ولم نتورط في حادث بحمد الله..
حتى عندما اكتشفت عدم وجود قطارات مناسبة، إلا تلك التي تصل بي مدينة (سلوا) -بكسر السين لو سمحتم- في الواحدة صباحًا.
المسافة بين المدينة وقريتي سبعة كيلومترات، ظننت أنني سأقطعهم مشيًا، فعلتها مرتين من قبل، نظرًا لأن المواصلات شبه تختفي من طرقنا الاسفلتية عقب صلاة العشاء، لكن.. للغرابة.. وجدت رجلًا يستقل تروسيكل، وفي الجزء الخلفى فتاة مراهقة، وجدته يخرج من شارع جانبي، سألته:
- أأنت ذاهب إلى قرية (كذا)؟!
- (هز كتفيه ببساطة) اركب.
كان السائق يصطحب ابنته معه، وكان هذا سبب إضافي يجعله لا يتوقف لأجلي، لاحظوا أننا في الصعيد، ونتعامل بتحفظ بالغ تجاه هذه المسائل.
ظننت أنه سيأخذني في طريقه، حتى يتوقف عند الوجهة التي خرج لها هو، ويستأذنني أن وصل خط النهاية بالنسبة إليه، فأكمل الطريق مشيًا، لم أكن أحلم بأكثر من أن يختصر على ثلاثة كيلومترات أو أدنى، فبدلًا من أن أجدني أقطع سبعة أو ثمانية، يقتصر الأمر على النصف أو الثلث.
طوال الطريق، كنت أنظر لأعمدة الإنارة المتتالية، وأتساءل:
- أكنت سأقطع كل ذلك سيرًا على الأقدام؟
الأدهى، أن الرجل استمر في سيره.. استمر.. بينما أنا -في المقابل- عاجزًا عن الفهم.. اتضح أنه قرر المواصلة، حتى يوصلني لمنطقتي، ثم يعود -مرة أخرى- كل تلك المسافة.
مددت يدي إلى المحفظة في جيبي، لكن يبدو أنه شعر بنوع من الإهانة لمجرد محاولتي تلك.
يا الله!
أي كلمات شكر أقولها لذلك الرجل!
هو + د. رءوف (رفيقي القديم الذي قابلته عند البوابة) + سنوسي + الصورة ومن فيها = أعتبرهم المكتسبات الوحيدة التي خرجت من ذاك اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"