السبت، 3 يونيو 2017

(ياسين) بدون (أحمد سعيد)

كبرت، وأنا أتعامل مع الموت كظاهرة حتمية طبيعية، يمكن القول أنه -بالنسبة إليّ- كـ (الشفق القطبي)، يحدث في الطرف الآخر من العالم، فلم أختبر -على الإطلاق- اقترابها من دائرة الأحباء أو الأصدقاء، أو تزر منزلي حتى.
خطر لي سؤال بين الحين والآخر:
-كيف سأفكر أو أشعر، حينما تأتي، وحتمًا ستأتي؟
في السابع من رمضان من العام الماضي، عرفت جزء من الإجابة، عندما توفيت عمتي الأعز، ثم يشاء القدر، أن تسللت الظاهرة إلى منزلي، في نفس الفترة من الشهر الفضيل الذي يليه، من خلال رحيل شقيقها الأقرب لقلبي..
أبي.
                                           ***********
الملاحظة الأبرز من تلك التجربة، أن (الزمن) لا يقتل (الدهشة)، كما هو معتاد في أي ظرف آخر.
لا زلت مندهشًا من مذاق دخولي غرفة الأشعة المقطعية، كمرافق مريض،
لأول مرة.
بعد أن تعودت -طوال حياتي المهنية- على الجلوس فوق مقعد غرفة التحكم، في الطرف الآخر، داخل الجدران المعزولة بالرصاص.
"اندهشت" -بالأساس- من أنك لا تفقد المقرب منك دفعة واحدة، بل على مرات متجددة.
مرة عندما تراه مغطى بالملاءة، وتسأل نفسك: هل تجرؤ على إلقاء نظرة أخيرة؟
ومرة عندما وجدتني انقسم إلى شخصين، أحدهم مرتبك/ متلعثم/ يرتدي نظارة طبية/ يفقد الشعور بركبتيه عند أي صدمة كبرى، هذه الشاب الخجول صار -فجأة- ذكرى باهتة، تنتمي إلى ماضي سحيق، وكأنها لم يكن جزءًا من تركيبتي الشخصية قط.
تبقى -فحسب- ذلك الأنا الآخر، الأكثر كهولة وأثبت أقدامًا، فكان الابن الوحيد الذي حضر الغسل، ثم خرج يصافح -بظهر مفرود- عشرات الأكف، في أعقاب الدفن.
تجددت الدهشة، عندما سمعت ميكروفون البلدة، يعلن قبلها:
-توفي إلى رحمة الله، فلاني الفلان.
نستخدم هذه الطريقة كثيرًا في القرية، سمعتها عشرات المناسبات تنادي بعشرات الأسماء، لكن كم بدا وقع الجملة غريبًا جدًا على أذني، تلك اللحظة!
-أهذا اسم أبي؟ أحقًا.. مـ.. ات؟
نفس الشئ عندما قرأت على شاشة مواقع الفضاء الافتراضي، عبارة:
-البقاء لله في والد زميلنا (ياسين).
اندهشت -لأول وهلة- كذلك، وأنا أحاول استيعاب، مسألة:
- من (ياسين) هذا! الذي فقد والده؟
وكأنك داخل غرفة دافئة، تحيط بها رياح باردة، وفجأة، هدم الجدار المواجه، فتجد نفسك في متناول قشعريرة مستمرة.
كلما صدرت لي رواية جديدة، اعتدت دخول المنزل حاملًا نسختي الأولى، لأقدمها إلى أبي مصحوبة -كالعادة- باعتذار ضمني:
-أن اسمي على الغلاف يجعل اسمه يتزحزج قليلًا اليسار، لكن الاثنان باقيان ببعضهما على أي حال.
أعتقد أن الدهشة ستظل تتجدد، مع كل عودة بإصدار جديد لي، يليه الصدمة -في كل مرة- إلى أن الحاج (أحمد) ليس موجودًا بالبيت، أو في أي مكان آخر فوق سطح الأرض.
                                           **********
الملاحظة الثانية:
أن (دهشة) الصدمة، يعوضها الله -عز وجل- بكثير من  (التكرار المألوف). 
رفضت -بإصرار- إقامة عزاء، على عكس ما عادات وتقاليد القرية، نظرًا لأن أبي لم يكن ليحب ذلك، ويمكن القول: أن جميع الأقارب يعلمون عنه تلك المسألة، لكن ميلهم للانصياع وراء "العرف السائد"، جعل بعضهم يحاول مناقشتي في الأمر، فكدت أرد بنفاد صبر، أنني:
- أبلغكم، ولست أستشيركم.
فجأة، شعر جزء مني، بأن هذه الجملة مألوفة نوعًا؟! ترى أين سمعتها من قبل؟
نفس الشيء، عندما قلت ما قلت، محاولًا إخراس (قدر المستطاع) صراخ النسوة، يليها   ألحاحي بمنتهى العناد، لمعرفة: أي أعمامي دفع تكاليف الدفن وخلافه؟
قد تبدو تفصيلة قابلة للإرجاء، ولا تستحق كل هذه العجلة، لكنني أصررت.. وسددتها قبل أن يهبط أبي إلى قبره.
هذه الطريقة في ترتيب الألويويات، كانت تبدو "مألوفة" كذلك؟!
                                          ***********
خلال كل مبارياتنا النقاشية، سواء في القضايا العامة أو الخاصة، لم ينجح أحدنا -أبي أو أنا- في تحقيق فوز صريح على الآخر.
السبب:
أنني ورثت جيناته الخاصة بتكنيكات المنطق، مما يجعلني -تقريبًا- أفكر بنفس الطريقة، وأستعمل ذات الحيل والمناورات الإقناعية، بل ونقرأ ما لم يصرح به الآخر، أوضح بكثير ما يصرح.
يشبه الأمر جولة شطرنج بين يدك اليمنى واليسرى، فأي نتيجة متوقعة سوى التعادل؟!
منذ ثلاثة أيام، أمسكت كف الحاج (أحمد) في غرفة العناية المركزة، أقنعه بأن يبقى.
فتلقيت خسارتي الأولى.. الأكبر.. في مثل تلك المباريات.. عندما فضل أبي عدم التأخر عن أجندة مواعيده كالعادة، ولم يقتنع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"