الجمعة، 24 فبراير 2017

من كتاب (نبوءات الخيال العلمي)| الفضاء الافتراضي

الكثير منا سمع عن (مارك توين)، باعتباره؛ مؤلف الرواية الشهيرة (مغامرات توم صوير)، بالإضافة إلى كونه أحد أيقونات الأدب الساخر الأمريكي.
ما لا يعرفه الأغلبية.. أن نفس الكاتب خفيف الظل، امتلك ميولًا علمية بالغة الجدية!
فإذا ذهبت إلي سجل البراءات الأمريكي، ستجد أكثر من براءة اختراع مسجلة باسمه (للدقة بـ "صمويل كليمنس"، اسمه الأصلي)، كما عرف عنه صداقته بالعالم (نيكولا تيسلا).
ليس ذلك فقط!
في زمن (توين).. عرف العالم فكرة (الهاتف) بالكاد، وبالتي صدمهم ما طرحه الكاتب عبر سطور قصته (London Times).
إذ تخيّل –ضمن سياقها- إمكانية مهاتفة الآخرين في الأطراف الأخرى من العالم، وأن كلا الطرفين قابل لأن يكون مسموعًا ومرئيًا بالنسبة للآخر.
ولكم تتخيلوا نظرة الجمهور إلى "تيليكتروسكوب" –الاسم الذي منحه المؤلف للجهاز- ، خصوصًا في تاريخ متأخر مثل العام 1898م!
مات (مارك توين) بعد نشره القصة بـ أعوام، فلم يعلم أن وزارة دفاع بلاده ستأتي متأخرة بنحو قرن كامل، قبل أن تخترع تكنولوجيا بنفس المواصفات، وتطلق عليها تسمية مغايرة، فبدلَا الـ"تيليكتروسكوب"؛ "إنترنت".
في عام 1950م؛ سار الروائي الأميركي (ديفيد براين) على نهج مواطنه (توين) من خلال رواية الخيال العلمي (الأرض)، تخيل عبرها إمكانية وجود شبكة لامركزية تسمح  بتبادل الروابط المرئية والمسموعة للنصوص، بما يتضمنه من إمكانية تواصل بالفيديو/ منتديات نقاش  مدونات، بالإضافة إلى أضرار ثانوية مثل إمكانية اختراق خصوصية المعلومات، أي باختصار؛ اقترب خطوة أكبر بكثير من شكل الانترنت المعاصر الذي بدأ يتخذ طريقه إلى أرض الواقع منذ نهاية الخمسينيات، حيث جثم شبح الحرب النووية على العالم، فدأبت وزارة الدفاع الأمريكية على التوغل في كل الاحتمالات، خصوصًا مسألة:
- ماذا لو واجهت البلاد ضربة نووية شاملة؟ ما التأثير المحتمل على قطاعات الجيش المختلفة حينئذٍ؟ وكيف يمكنها الحصول على شبكة اتصالات صامدة ومستمرة مهما كانت قوة الضربة؟!
وهكذا فرضت الضرورة فكرة تكوين شبكة حواسيب دون مركز تحكم رئيسي، بحيث يتمكن نظام الاتصال من الاستمرار، مهما تدمر له من أطراف.
لم يضع البنتاجون وقته، فبدأوا تطبيق الفكرة على الفور عبر إطلاق (شبكة وكالة مشروع الأبحاث المتقدمة) (ARPANET)، وتكونت أول الشبكة من أربعة حواسيب ترتبط بواسطة توصيلات التليفون، ثم تطورت بمرور الوقت، وإن استعصى عائق واحد؛ هو عدم وجود بروتوكول معياري، بحيث تتمكن الأجهزة المختلفة من التواصل مع بعضها البعض.
وهكذا واصلت وزارة الدفاع إشراك الجامعات والمؤسسات البحثية كي يساهموا بتطوير الشبكة، لم يلبث أن انقسم الانترنت إلى شبكتين: MIL net التي ظلت على استعمالاتها العسكرية.
ARPA net التي خرجت إلى خلعت الأفرول المموه، وخرجت بالانترنت للاستعمالات المدنية، وإن انحصرت أغلب هذه الأغراض داخل نفس نطاق الجامعات وبحوثها الأكاديمية.
توسعت الدائرة كثيرًا عام 1982م بظهور مصطلح (إنترنت) للمرة الأولى، بالتوازي مع إطلاق شركة (آي بي إم) لأول كمبيوتر شخصي في العالم، في حين يعتبر البعض يناير 1983م هو عيد المولد الرسمي للانترنت، لأنه اقترن بظهور بروتوكول (TCP / IP) الذي حل مشكلة الرابط المعياري الذي تحدثنا عنه أعلاه، وإن تظل هناك بعض التواريخ المهمة الأخرى كـ (1989)م، وهو العام الذي اقترح فيه السير (تيم بيرنرز لي) أول خادوم لشبكة الإنترنت في العالم.
لاحقًا؛ خرجت شعلة الفضاء الافتراضي من أمريكا إلى أوربا، ليلتقطها كاتب آخر حاصل على درجة (فارس) أو (سير) رسميًا، إذ لم يحل عام 1956 إلا وقد طالع القراء رواية البريطاني آرثر كلارك  (المدينة والنجوم ).
* الزمان: بعد بليون عام.
* المكان: آخر المدن المستقبلية التي تدار بالكامل من قبل الحاسب.
تنحو الأحداث منحنى أقرب لما رأيناه في فيلم (ماتريكس)، أو ربما كانت الرواية هي الجذور الكلاسيكية لها.
حيث يخزن الكمبيوتر وعي شعبه في بنك الذكريات الخاص بالمدينة، ثم يعيد استنساخه عبر حقن هذه الذكريات في أجساد مواطنين جدد.
ثم جاء المواطن (إلفين) ليحقق ما ظنه الجميع مستحيلًا، إذ هرب من المدينة إلى الأعلى، ليكتشف وجود مدينة ناجية أخرى على السطح تُدعى (ليز)، تلك الواحة الخضراء الشاسعة التي تربض بين أحضان الجبال، فيحيا أهلها حياة طبيعية برفقة حد أدنى من استخدام التكنولوجيا، كما يتميزون بالقدرة على قراءة أفكار بعضهم البعض ولو على بعد أميال.
اصطدم (إلفين) بمفارقة لافتة خلال حياته في العالم الجديد، إذ وجد أن لكل مدينة مخاوفها الخاصة، فكما يخشى أهل الأعماق العالم الخارجي،  يخاف رجال الـ(Lys)  بنفس الدرجة من سفر الفضاء والأشياء الميكانيكية!
هذه المخاوف -بالطبع-  لم تولد من فراغ، فقادت (إلفين) وصديقه (هيلفر) إلى اكتشاف الكثير من أسرار العالمين.
                                             **********
كما نرى:
وضع (توين) و(براين) و(كلارك) السطور الأول لذاك العالم، فتبقى أن نعرف مبتكر مصطلح (العالم الافتراضي) نفسه.
هناك من يقول انه (لورانس بيرسون)، وهناك من يعتبر الشرارة اتقدت –فعليًا- عام 1983، مع صدور عدد جديد من مجلة (الخيال العلمي المذهل)، وفي صدر هذا العدد بزغت لأول مرة كلمة (سيبربنك Cyberpunk)، حيث جاءت كعنوان لقصة قصيرة، جاورها صورة صاحبها (بروس بيثك).
كلمة (سيبر) مشتقة من مصطلح (سيبرنيتكس) (علم التحكم الآلي)، وتشير إلى العالم الرقمي أو الإلكتروني، أما كلمة (بانك) فتشير إلى المشاغب أو المتمرد.
شكلّت قصة (بروس) مفهومه البكر عن ذاك العالم؛ بمفردات المكونة من (متسللي كمبيوتر+ ذكاء صناعي+ علم وراثة)، وصنع جسرًا بين ما سبق وبين الحكومات المستقبيلة القمعية + حكايا المدينة الفاضلة (أو الفاسدة.. أيهما أقرب)، إلخ.
ومن يومها، تم قص شريط البوابة إلى ذاك العالم، فعام 1973م، صدرت رواية (ويستورلد) للكاتب الشهير (مايكل كرايتون) والتي منح العالم عبرها تصورًا مبكرًا جدًا عن فيروسات الكمبيوتر، وإمكانية الآلات مستقبلًا بنوع من الـ –لو جاز لنا التعبير- العدوى التي تشبه في أثرها ما تسببه الطفيليات الحية للإنسان، وفي أعقاب (كرايتون) بعامين مباشرة، عادت الشعلة مرة أخرى إلى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فكتب البريطاني (جون برونر) علامة رائدة أخرى من أدبيات الفضاء الرقمي.
لو دققنا في تاريخ صدور الرواية، ستجد أنه سبقت –بأعوام- ظهور أول أجيال من الحاسبات الشخصية، أي في وقت بالكاد سمع فيه أغلبية سكان الأرض عن شيء اسمه "كمبيوتر"، وهكذا، حطمت روايته: (The Shockwave Ride) أسوار ذاك الحاضر، وتجاوزته إلى أفق موغل في المستقبل، حيث أسس لمفهوم شبكة عنكبوتية عالمية تربط بين الحواسيب، فهل اكتفي بذلك؟ كلا.. لقد ذهب لما هو أبعد، فقفز إلى التنبؤ بوجود شخصية سارق الحسابات الشخصية على الإنترنت (الهاكر)، وفكرة البرامج الضارة التي تصيب الحاسبات الآلية.
نستطيع القول، أن هناك تأثر واضح  من قصة "برونر" بكتاب (صدمة المستقبل) لإلفين توفلر، انعكس ذلك بوضوح بدءًا من عنوان الرواية ذاته، مرورًا بالأحداث الخيالية التي تمركزت على برنامج ترعاه الحكومة المستبدة، ويهدف إلى إخضاع الأطفال العباقرة، فيتم تنشئتهم كتروس تخدم آلة السلطة الغاشمة.
استغل الفتى (نيك) مهاراته الحاسوبية، وفر من أسر البرنامج، فأوكلوا مهمة تعقبه إلى محقق خاص، هو (بول فريمان).. الذي تخرج –بدوره-من برنامج آخر تخصص في استراتيجيات الدفاع، فلنا أن نتوقع سخونة الصراع بين الطرفين، بينما تتنقل بهما حبكة الرواية داخل أروقة الجريمة والفضاء السايبري، لتختتم الأحداث بهجوم (نيك) على الشبكة الرقمية للحكومة بواسطة ما أطلق عليه (الدودة)، أي أن الرواية –في حدود علمي- هي المصدر الذي استمد الباحثون المصطلح منه، للتعبير عن هذا النوع من البرامج الرقمية الضارة.
نلاحظ –عمومًا- أنه كان اتجاهًا جماعيًا ظلل في القرن العشرين، فسيطر على مخيلة الباحثين والأدباء على حد سواء، كلاهما كان يتوقع ذوبان الحد الفاصل بين سلوك برامج الكمبيوتر وخصائص الكائنات الحية، نجد ذلك واضحًا توقع (نيومان) قدرة بعضها على نسخ نفسه طفيليًا بالضبط كالفيروسات الحقيقية، نفس الشيئ  مع (برونر) واستلهامه للمصطلح والمعنى من الديدان الشريطية.
                                                          ************
يُحتمل أن (برونر) –أو حتى (كرايتون)- كونا تلك التصورات نتيجة سماعهم عن (فون نيومان)، ونظرياته المبكرة منذ عام 1949م عن برامج الحاسوب التي تستطيع نسخ نفسها، أي بلغة أخر؛ ستتكاثر فيما يشبه الفيروسات الحقيقية، وهو ما تحقق بصورة تطبيقية بدائية عام 1971م مثلًا، من خلال برامج مثل (الزاحف)، وإن كان تطبيقًا بالغ السطحية بالطبع، حيث اقتصر على نسخ نفسه مع رسالة مرحة تقول: (أنا الزاحف، امسك بي لو استطعت).
وهكذا يكرر السؤال طرح نفسه:
-هل يستلهم الباحثون من الخيال العلمي، أم العكس؟
مع العلم أن لفظة "فيروس كمبيوتر" ذاتها ظهرت عام 1983م بعد أعوام طويلة من روايتي (كرايتون) و(برونر)، تبعها انطلاق عدد من الفيروسات المستأنسة؛ مثل (Brain.A) الذي أشارت أصابع الاتهام في صنعه إلى الشقيقين الباكستانيين (أمجد) و(إقبال)، يتسلل (براين) عبر القرص المرن -، فيظهر لك رسالة مداعبة، فقط! دون أي أدنى أضرار متعمدة أو تدمير بيانات؛ كل ما أراده الشقيقان هو حفظ حقوق الملكية الفكرية لمنتجاتهم البرمجية.
أي أن نبوءة (برونر) لا تنطبق إطلاقًا لا على (براين)، ولا حتى ما تبعه من فيروسات شِبه أليفة مثله.
إلا أن هذه الفيروسات الطفولية أسقطت أول قطعة دومينو من الصف المتراص، مما آل بنا إلى الوضع الحالي، فبدأت خلال التسعينيات حقبة الفيروسات التي تهاجم قطاع التشغيل، علاوة على تلك الأخرى التي تمرست على مهاجمة الأقراص الصلبة ومحو كل ذاكرتها.
وقد لحق جيلي بالرعيل الأول من هذه الفيروسات، أو على الأقل سمع عنها بأثر رجعي، فرأينا كلام (برونر) يتجسد أمامنا من خلال فيروسات كـ (مايكل أنجلو) الذي ينشط في نفس تاريخ ميلاد الرسام العالمي من كل عام، أو فيروس (تشيرنوبيل)، الذي ينشط يكرر نفس الفعلة مع ذكرى المأساة النووية الشهيرة، ثم انتقلت ساحة اللعبة إلى براح جديد عام 1999م تطور ما أطلقوا (ميليسا)، كأول فيروس يتوغل عبر البريد الإلكتروني، مما أكسبه ساحة انتشار أوسع بكثير، بعد أن اقتصرت انتشار أسلافه عبر وسائط الأقراص المرنة وما شابه.
منذ ذلك الحين، تتسبب الفيروسات في أرق الشركات والمستخدمين، إذ يقدر عددها الحالي بآلاف مؤلفةK لا أريد التورط بذكر إحصائيات خاصة بزمن محدد، طالما أعلم أن العدد مرشح للتزايد مع ثانية تمر، مع زيادة مماثلة في الخسائر بأرقام تصل إلى بلايين الدولارات.
                                           **********
 (وليام جيبسون)، أو (الرسول الأسود) لـ (السيبربنك) كما يلقبونه.
كاتب أمريكي، مدجج بمختلف جوائز الخيال العلمي العالمية مثل (هوجو) و(نيبولا) و(السديم) وغيرها.
يقول عنه (بروس بيتك)، الذي سبق وأشرنا إليه كمبتكر لفظة (الفضاء السايبري):
-"لم ادعِ أبدًا أنني اخترعت أدب (السايبر بانك)، فهذا الشرف يعود إلى (ويليام  جيبسون) وروايته نيومانسر (ممزقوا الاعصاب)".
كما سبقه (مايك سونك) بعبارته الشهيرة:
-"كتاب الحركة (السايبر بانك) يجب أن يسموا نيرومانسريين (ممزقوا الاعصاب)، لأن معظم ما يفعلونه هو محاكاة الرواية".
ولد جيبسون لأسرة كثيرة التنقل بسبب عمل الأب في مجال المقاولات؛ فنشأ خجولًا منطويًا بلا أصدقاء، ليجعل من القصص الخيالية رفيقه البديل، وإن تأثر خصوصًا بأعمال (وليام بوروز) و(هنري ميلر) بالتحديد.
رحل والديّ (جيبسون) في سن مبكرة، الأب -أولًا- أثناء دراسة الصبي بالمرحلة الابتدائية، ولحقت به الأم بينما ابنها في الثامنة عشرة بعد.
كل الظروف السابقة ظلت تدفعه –باستمرار- إلى السوداوية والعزلة، فودع المدرسة قبل الحصول على شهادة، ثم كرر مسلسل الهروب الكبير من الولايات المتحدة بأكملها، فرارًا من استدعائه للتجنيد في حرب  (فيتنام)، وهي تجربة ما كان للشاب المنطوي أن يتقبلها بأي حال، فارتحل عبر الحدود الشمالية للبلاد ليستقر في مدينة (تورينتو)، وحصل هناك على الجنسية الكندية، التي احتفظ بها إلى نهاية حياته.
اشتهر (جيبسون) برواياته السابقة لعصرها، فانفرد باصطكاكه المبكر لمصطلح (الفضاء السايبري Cyberspace) عبر قصته القصيرة (الكروم المحترق) عام 1982م، ثم أرسى أركان هذا المفهوم عام 1984 بطرحه روايته الأولى (ممزق الأعصاب Neuromancer).
ويمكننا القول بثقة أن هذه المحطة هي المُبتدأ الذي انطلقت منه شهرة (جيبسون)، تتحدث الرواية عن تورط متسلل الحاسبات (هنري دورسيت) في تهمة سرقة، فعقابوه بتسميم جسده، مما تسبب في تضرر جهازه العصبي، ومن ثم عجز عن العودة إلى الفضاء الافتراضي الذي ينتمي إليه، شيء أشبه بالماتريكس، فعاش (هنري) ما يشبه خروج "آدم" من الجنة، ليجد نفسه في اليابان، بين مجتمع بائس منبوذ يسمى (The Sprawl).
ظهر على مسرح الأحداث من يدعى "أرميتاج"، الضابط العسكري السابق الذي حمل عرضًا يصعب رفضه؛ منح العلاج لـ (هنرى)، مقابل التعاون في بعض الأنشطة القذرة.
تقدم الرواية مزج براق بين التقنيات المستقبلية من ناحية، والأجواء اليابانية العريقة من ناحية أخرى، يوجد نينجا.. وأسلحة كلاسيكية.. ثم تكتمل الأخيرة بظهور المرأة الفولاذية (مولي) أو "ساموراي الشارع" كما يطلقون عليها، والتي يرتبط معها (هنري) بعلاقة عاطفية.
هذه التناقضات تعكس بوضوح، بصيصًا من الروح الحادة الكئيبة التي يمتلكها المؤلف.
خرج (جيبسون) متشبعًا من التجربة الدسمة السابقة، ليشتهي الانطلاق بعدها بفضاء آخر، فاستقر عام 1990م على ولوج أدب التاريخ البديل، وتشارك مع (بروس ستيرلنج) في رواية أطلقا عليها (محرك مختلف).
في تسعينيات القرن العشرين، عاد (جيبسون) إلى استقراء الغد، فمنحنا ثلاثية (الجسر) التي ضخ عبرها رؤياه عن الأثر المستقبلي المظلم للأنظمة الرأسمالية، بكل أذرعها التي تتلاعب بنا من وسائل إعلام، وشركات متعددة الجنسيات، إلخ.
التفاؤل تهمة لا نستطيع أن نصم بها (وليام جيبسون)، أثبت الزمن أنه على حق؛ فأكثر نبوءاته شقت طريقها إلى التحقق، وقد لا يسعنا المكان هنا لذكرها جميعًا، يكفي ما طرقه من مفردات جديدة في عالم: (الانترنت)، (الكون الرقمي)، (الذكاء الاصطناعي) (هندسة الجينات)، يضاف إليها تنبؤه بالتسارع السرطاني لتكنولوجيا (ألعاب الفيديو).
أما التاريخ الحقيقي للألعاب نفسها فيعود إلى أواخر الأربعينيات، أي توازي مع بدايات اختراع الحاسب نفسه، بالتالي يسهل التخمين أن أغراضها اقتصرت –وقتها- على التدريب والبحوث.
نتذكر كم كانت الأجيال الأولى من الأجهزة في غاية الضخامة/ البطء/ التكلفة، مما يجعل غير مناسبة للهو أصلًا.
وهكذا انتظر العالم حتى عام 1971م، لتظهر أول ما يمكن الاعتداد بها كأول لعبة فيديو صالحة للرواج التجاري، تلاها ثورة عارمة كمًا ونوعًا، ما بين الأتاري الذي يتم استخدامه منزليًا مع التلفاز، علاوة على الأجهزة الكبيرة في المتاجر الكبرى ومراكز الألعاب.
في الواقع، كانت الثورة "عارمة" بأكثر مما ينبغي، مما أدى لتذبذب السوق عدة مرات، وهو نتيجة منطقية مع تشبعه بهذا الكم الضخم متفاوت الجودة.
تشكك البعض في احتضار تكنولوجيا ألعاب الفيديو تمامًا، حتى خالفت التوقعات وبُعثت مرة أخرى بثوب جديد، تسبب لنا الإدمان الذي يقع فيه الجميع حاليًا.
أتذكر جنوننا ونحن صغار بذاك المغامر ذو القبعة (ماريو)، وشاركه العالم أجمع رحلة بحثه عن الأميرة منذ عام 1981م (التاريخ الرسمي لانطلاق اللعبة)..
ذكريات بائسة؟ هذا صحيح.. لكنها تظل ذات مذاق خاص يحتفظ به من عاصرها.

                                                ************
عود على بدء مع (وليام جيبسون) ونبوءاته، نذكر أيضًا توقعاته حول السيطرة المستقبلية الكاسحة لبرامج (تليفزيون الواقع)، للأمانة العلمية؛ نستطيع القول أن هذه البرامج الواقع موجودة منذ بداية التلفزيون ذاته، لكنها اقتصرت على أشكال الكاميرا السرية، أو بعض الوثائقيات المجردة.
نذكر أن تعريف (تلفزيون الواقع)؛ يعنى البرامج التي تتناول مواقف حية حقيقية دون سيناريو مسبق، مع إمكانية تحديد أو التحكم في البيئة والظروف التي يوجدون بها.  
أي أن البرامج الرائدة طبقًا لهذا التعريف، يمكن حصرها بدءًا من مرحلة برامج على غرار الإذاعي (ملكة ليوم واحد) الذي تخصص في استضافة ومحاورة ربات منزل، قبل تتويج إحداهن بناء على تصويت الجمهور، هناك أيضًا برنامج (العائلة الأمريكية) عام 1970م، الذي يحتسب له جرأته في اقتحام موضوعات حرجة اجتماعيًا آنذاك مثل الطلاق والشذوذ الجنسي، إلخ.
يكمن سحر (تليفزيون الواقع) في محاكاته الحياة اليومية، وسرقته لاهتمام الجماهير عن طريق طابعه العفوي الملامس للواقع، وضاف إليه الطبيعة التفاعلية، التي تجعل من الجمهور طرفًا مؤثرًا في ترجيح متنافس، وإسقاط آخرين.
في حين يتفق بعض الإعلاميين وعلماء الاجتماع مع النبوءات المتشائمة لأدباء الخيال العلمي، فينادون بأن هذى الظاهرة تسير بالناس إلى درجة الهوس وغسيل المخ، بل ويبالغ البعض في الهجوم بتسميتها (تلفزيون بيع الأحلام الجماعية) أو (برامج المخدر الهادئ) أو (تلفزيون القمامة  Trasch TV).
تم إنتاج عدة أفلام تميل إلى وجهة النظر تلك، منهم (Reality) الذي ذيله توقيع المخرج الإيطالي (ماتيو جاروني)، واستطرد في قصة رجل مجنون بالظهور في تليفزيونات الواقع، كما أعجبني بشكل خاص، الفكرة الفريدة لفيلم (عرض ترومان)، حيث يكتشف البطل (جيم كاري) أن حياته بالكامل منذ ولادته، ما هي إلا عرض يقدم عبر شاشة تلفزيون واقع.
كل العالم الذي عرفه لم يكن سوى ستوديو كبير، ومن يحيطون به ما هم إلا ممثلين، بل وحتى عندما يذكر أحدهم اسم سلعة أمامه بدون داعي، حسنًا.. كان ذلك إعلانًا يخاطب المشاهدين على الشاشة.
=
 لتحميل كتاب (نبوءات الخيال العلمي) كاملًا.. من (هنا). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"