الأحد، 9 أكتوبر 2016

(باب الليل)

"لا يعرفون على وجه الدقة، ما الذي جاء بهم إلى هنا، وحتى إن عرفوا، لا يجدون سببًا وجيهًا أو نصف وجيه، ربما لديهم سببًا يتيمًا للبقاء هنا، الجهات الأصلية مغلقة، والجهات الاجتياطية موصدة، الشواطئ التى نزلوا فيها نبتت عليها أحجار كبيرة.
يدورون داخل حلقة مفرغة، لا يعرفون ماذا يحدث في الخارج، وإن استطالت آذنهم لا يعونه، يبدون كبلهاء منسحقين مستسلمين لقدرهم، لديهم وقت فارض يكفي لأف تكتب رواية"
***
تتحدث (باب الليل) عن مقهى تونسي، وهي كأي مقهى على ناصية القدر، تمتلك أكثر من باب، لذلك حمل كل فصل عنوانًا منسوبًا إلى أحداهم. 
باب الرجال/ النساء/ النحل/ الفتح/ إلخ
هذه الرواية -باختصار شديد- تجمع بين النقيضين: قمة ما أحترمه، وقاع ما أتحفظ عليه.
أما الأولى فهي "الجمل القصيرة".
يقول همينجواي، أنهم سلموه وريقة في بداية عمله بالصحافة، تحوي إرشادات ثلاث، ظل يحافظ عليها حتى بعد احترافه الأدب، هذه الإرشادات يتصدرها مبدأ:
- "اجعل عباراتك قصيرة".
الأغلبية يركلون هذه القاعدة للأسف، فيجذبهم إغواء الزخرفة اللغوية إلى بناء جُمل من عشر أو عشرين كلمة متراصة بشكل يثقل القراءة جاعلًا إياها أشبه بمحاولة رجل بدين أن..
لحظة، عباراتي السابقة في حد ذاتها، وقعت في نفس الشرك!
آسف. 
عمومًا أعتقدها نقلت إليكم مثالًا للوقع السئ الذي أعنيه. 
مهارة (الجمل القصيرة) ليست سهلة إطلاقًا، مما يجعلنى أمتن وأحترم كل من يستطيع ترويضها.
لذلك، يمكنني القول بارتياح شديد، أنني تعلمت دروسًا من (وحيد الطويلة) في هذا الصدد، هذا الرجل يمنح سردًا رشيقًا، مع تشبيهات في قلب المرمي، والأدهى أنه يفعل ذلك بشكل يوحي بالسهولة، وكأنما لا يبذل مجهودًا بذلك.

***
  الرقص الناعم يحتاج إلى عاشقين، الرقص الحار يحتاج إلى مجنونين، في السياسة لابد من داهيتين، أو داهية ومجنون على أقل تقدير.
***

أما عن قاع ما أتحفظ عليه، فهو كمية الأوصاف الجسدية في الرواية.
أذكر أنهم لقبوا (نزار قباني) بـ (شاعر النهود)، لأنها كانت محورًا مكررًا في أعماله بشكل هاجسي، فأخشى أن أعتبر (باب الليل) رواية الـ.. البنطلونات الجينز.. (معلش، مشيها البنطلونات الجينز).
ظننت قبلًا أن الأوصاف الحسية المباشرة هي الأسوأ، لكن العمل أثبت لي أن التوريات الملعوبة تعد أحد نصلًا بكثير.
ولا أدرى هل يحسب هذا للكاتب أم عليه!
الوصف منحط.. منحط لدرجة فاتنة لو جاز لي التعبير.
أما الشخصيات، فهي من صنيعة كاتب "محترف"، لا أجد ما يمكنني قوله أكثر من ذلك.
كلها معجونة بالمعاناة مع اختلاف أشكالها، وإن أثر فيّ بشكل خاص الجزء الخاص بـ (أبو شندي) وزوجته.
***
كل شهر، يبحثون عن حكايات يدفنوا فيها حكاياتهم.. أو يقتلونها.
وجهوههم ملطخة بالحيرة، ملطخة بملابس قديمة اقتنصوها من سوق الملابس المستعملة، وأبو شندى يقول: ملابسنا تشبهنا، تشبه أحلامنا بالتمام والكمال، نعيش بها، وقد نموت فيها.
***

المشكلة في أن الجوع الجسدي ظل عاملهم المشترك أكثر من اللازم، هناك ثائر فلسطينى سابق+ جوع جسدي.
امرأة خانتها شقيقتها+ جوع جسدى.
سجينة سابقة+ جوع جسدي.
سلطة بالفواكه+ جوع جسدي.
بالتأكيد لو ظل فرويد حيًا حتى الآن، كان ليعتبرها أحد رواياته المفضلة، لكن الحياة أوسع بكثير من الدوران في فلك واحد.
بناء عليه؛ استقبلت شخصية (مهدي) باحتفاء بالغ؛ هذا مسيحي يحلم بالهجرة إلى أمريكا، والانضمام للمارينز.
أخيرًا هناك من ينشغل بقضية أخرى، لم تدع في عقله متسعًا لصاحبات الجينز.

***
كل شهر، يبحثون عن حكايات يدفنوا فيها حكاياتهم.. أو يقتلونها.
وجهوههم ملطخة بالحيرة، ملطخة بملابس قديمة اقتنصوها من سوق الملابس المستعملة، وأبو شندى يقول: ملابسنا تشبهنا، تشبه أحلامنا بالتمام والكمال، نعيش بها، وقد نموت فيها.
***

نقطة التكرار السابقة جعلتنى ألجأ (في بعض الأحيان بالنصف الثاني من الرواية تحديدًا) إلى قلب الصفحات بسرعة، حيث تشترك خلفيات الشخصيات في أنها مرسومة كأروع ما يكون، كما أن اللغة جذابة، وتسير بمستوى ثابت خلاب، فالجمل القصيرة التي سأجدها في البداية، سأجدها في المنتصف، أو النهاية.
وهكذا، ما إن أرى بطلًا يدخل النفق الفرويدي المعتاد، حتى تستعجل عيوني السطور، ليس ورعًا لا سمح الله، لكن لأنني رأيت نفس العقدة بأكثر من وجه في جل الشخصيات، فتعبت من مضغ نفس العلكة.
أميل إلى اعتبارها رواية "شخصيات" بالدرجة الأولى.
بمعنى أنها لا تعتمد على عقدة حدث كبير، بحيث تدور في فلكه الشخصيات، بل تتكون من خيوط منفصلة متصلة، تتوغل في ماضي رواد المقهى، كل منهم على حدة، علاوة على علاقتهم ببعضهم البعض.
يذكرني العمل بصديقي البذئ، (وكلنا كرجال لدينا أحد المقربين من هذا النوع)، الذي أظل متأرقًا طوال جلوسي معه، وتصدمني ألفاظه بشدة، لكنني لا أفكر أبدًا في النهوض، وتضطرني تركيبته الآسرة للتعامل معها كما هي، ذاك الوقح الجذاب، المليئ بعنفوان الخبرات الحياتية.
لذلك، أتحفظ على شئت أن أتحفظ على أشياء لم أستطيع احترامها، لكنني أستمر في البحث عنه، مجالسته، التعلم منه.
بل وأجرؤ على الاعتراف -سرًا بيني وبين نفسي- أنني..  أحبه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"