الاثنين، 29 أغسطس 2016

متضامن مع بنك (توفير الزمن)



لمعت عينا شقيقي الأصغر بسعادة، بينما يخبرني عن أول مرة قاد فيها الدراجات، فما كان مني إلا أن استمت في الحفاظ على ملامحي محايدة، كلا، لن أسمح لنظرات الحسد أن تقفز إلى وجهي، فيعلم أنني –رغم قدومي إلى الدنيا قبله بسبعة أعوام- لا أجيد تلك المهارة.
نفس الموقف تكرر عندما أخبرني بأنه تعلم السباحة، وتلاها بأن سافر في رحلة البحر الأحمر حيث مقام (الشاذلي أبو الحسن)، إلخ.
عندما حاولت العودة بذاكرتي إلى الوراء، تساءلت: ماذا كنت أفعل في طفولتي؟ وكيف فاتني تعلم كل هذه التجارب البديهية لأي صبي؟
حسنًا، لم أحتج الكثير من الجهد لاستجلاء الإجابة، فقد كنت أفعل نفس ما فعله أصدقاء (مومو) بعد أن قابلوا السادة الرماديين.
وهذا قادني إلى موقف مضاد من فكرة الرواية برمتها؛ إذ يتحدث العمل عن لصوص يسرقون الزمن، بأن يدفعوا البشر للهاث وراء ادخار الوقت في تحقيق أهدافهم العملية، مع حذف بند الالتزامات الإنسانية من حياتهم.
أقنعهم السارقون بأنهم يدخروا لهم الفائض في بنك فريد من نوعه، بينما –في الحقيقة- يستمدون وجودهم من التهام هذا الفائض.
حسنًا.. طبيعتي العملية تجعلني أنحاز لصف توفير الوقت؟ فأتساءل:
-لماذا افترض المؤلف أن هذا يسحب بالضرورة من رصيد بهجتنا؟ ماذا لو أن سعادة البعض تكمن في تحدي الزمن، واللهاث المستمر في محاولة اللحاق به؟
سباق أعلم جيدًا أنني سأخسره، ومع لا أدرك أن الكنز هو الرحلة، وليس الوصول.
هذا يشبه سؤال وجودي حول: كيف تحكم على شخص ما بأنه مصطنع وعلى غير طبيعته؟ ماذا لو أن طبيعته -ذاتها- مفطورة على الإدعاء المسرحي، فهذا معناه أن حالته تلك هي عين التلقائية بالنسبة لمقاييسه.
البشر خُلقوا مختلفين، وما يسعد هذا، قد يتعس ذاك؛ فألا يحتمل أن بعض أصدقاء (مومو) قد وجد ذاته في ألعاب الرماديين؟ وفقدوها بالعودة مرة أخرى إلى أسمار المسرح القديم، إذ من غير المناسب لطبيعتهم ترتيب الأولويات من منطلق: (ألعاب ليست مبهجة، إذن هذا جحيم حتى لو كانت مفيدة؟).
بالنسبة لي شخصيًا، قضيت أغلب طفولتي مع الكتب، وكثيرًا ما طرق الرفاق بابي يدعونني إلى مغامرات من نوعية (السباحة في النيل.. ركوب الدراجات.. توغل في جبال ما وراء القرية).
إجاباتي غالبًا ما تنحاز للاعتذار، مع تفضيل البقاء مع الروايات علاوة على مراجع الفيزياء والميثولجي وعلم النفس)، ومن ثم المذاكرة لأخي الأصغر أحيانًا.
من هنا جاءت الصدمة عندما اكتشفت أنني الذي كنت بالأمس أعمله كل ما يعرفه، فوتت مهارات مهمة بديهية تفوق علىّ بها.
هل ندمت؟
بعد طول تفكير قررت أن: "لا"، لقد اخترت المناسب لما أنا عليه بالفعل.

************

بدأت الرواية بتمهيد أطول من اللازم، بالإضافة لعدد من القصص الفرعية التي أرهقت السياق الأصلي، وأظن أنها لو حذفت لما أثر على الرواية شيئًا (مثل قصة السفينة، وربما أيضًا مشاجرة البناء مع صاحب الحانة).
أما البداية الفعلية فتأخرت إلى الصفحة 85، تحديدًا مع الفصل السادس الذي حمل عنوان (الحسبة خاطئة لكن الناتج صحيح).
ويا له من عنوان في الصميم، يناسب ظهور أول العملاء الرماديين، مع العرض الخاص الذي حمله إلى فوزي الحلاق.
-أنت يا سيد فوزي تضيع وقتك بشكل ليس فيه إحساس بالمسئولية، أريد أن أبرهن لك بذلك عن طريق حسبة بسيطة.
لفت العميل نظر زبونه إلى الوقت اليومي الذي يضيعه في التأمل من النافذة/ الاعتناء برفيقيه في المنزل (أمه المسنة وبغباءه)/ الوردة التي يرسلها للمرأة التي يحبها ولا يستطيع أن يتزوجها لأنها أسيرة كرسي متحرك.
جميع ما سبق يستهلك سويعات يوميًا، لكن العميل انتقل لحساب الناتج بالدقائق ثم بالثواني، فواجه فوزي بالعدد الضخم ذو العشرة أرقام الذي خرج لهم في النهاية.
العرض الظاهري:
- أن يتخلص الحلاق من البغباء بالبيع، وأمه إلى دار المسنين، وحبيبته بجواب اعتذار نهائي، ومن ثم يفتح حساب في بنكهم، فيدخر هذه الملايين المهدرة من الثواني.
أما الحقيقة:
-فهي أن الرماديين يمتصون هذا الزمن، ليعيشوا عليه.

**************

"السعادة هي جماع المتع المنثورة في حياتنا، حتى أسوأ تفصيلة تحمل متعة ما، لكننا في بحثنا المحموم عن السعادة، كتلة واحدة مكتملة واضحة واضحة، ندهس هذه المتع، ولا نجد السعادة أبدًا.
السعادة لن تأتي أبدًا كتلة مكتملة وواضحة".
رواية (منافي الرب)- الأديب المصري (أشرف الخمايسي)

**************

في حوار بين (مومو) والأستاذ (أوركا) عن ماهية الرماديين، سألت الأولى:
-من هم إذن؟
-في الواقع هم لا شيء.
-من أين أتوا؟
-إنهم ينشأن لأن الناس سمحوا لهم أن ينشأوا.
هكذا نجد أنفسنا أمام لصوص يسرقون الزمن المقتطع من حياة البشر، ويتدثرون باللون الرمادي في كل شيء؛ سياراتهم، سجائرهم، وحتى أصواتهم.
في الطرف الآخر من حلبة الصراع؛ يوجد الأستاذ (أوركا) بالإضافة إلى سلحفاته رمز الحكمة الأزلي، ثم جيجي الطفل الثرثار، بالإضافة إلى (بيبو) العجوز المتأني، وعلى رأس هرم الرواية تأتي شخصية (مومو) الطفلة المشردة التي تسكن المسرح القديم، ورغم فقرها إلا أنها غنية بهالة طاقتها الإيجابية التي  تشعها طوال الوقت على من حولها.
هذه الهالة هي ما جعلتها تكون أول من لاحظ ظهور الرماديين.
يحلو لي أن أصف (مومو) –بالذات- بأنها واضحة  ككل الشخصيات، وإن اختار لها (إندة) أن تكون واضحة في عدم وضوحها، يصعب عليّ وصف ذلك، لكنني رأيتها كالماء لو جاز لي التعبير؛ كيان شفاف وأساسي في حياة أصدقائه، وفي نفس الوقت؛ غير واضح - لنا أو لهم- "تلك الكيفية التي تقوم فيها بذلك؟"، كيف تلهمهم بكل هذا الإلهام والتأثير الإيجابي عن طريق الصمت فقط، لم يفسر الكاتب ئلك النقطة بالنسبة ليّ.
كما نرى؛ تتمسك الرواية بدأب أدب الأطفال، فتقدم شخصيات واضحة ثنائية الأبعاد.
وهو الأصوب بالطبع، فمن غير المنطقي إرباك الأطفال بمنحهم نماذج يختلط فيها الخير مع الشر، وفي نفس الوقت، يسبب معاناة لكثير من الكبار إذا ما حاولوا مطالعتها، لأنهم –بطبيعة الحال- سيرون في ذلك الكثير من التسطيح.
ليس سارقوا الزمن فقط هم يتشحون باللون الرمادي، جميعنا كبشر كذلك، نتأرجح بين الأبيض والأسود طوال الوقت.
وهكذا أعترف وأنا بكامل قواي العقلية أنني:
-أنفر -بطبعي- من أسلوب التجريد الواضح، بدءًا من الروايات الفلسفية الكبرى التي تنتمي إلى مدرسة كافكا وسارامجوا، إلى فانتازيا الأطفال على غرار هذه الرواية.
خصوصًا مع تشخيص الزمن إلى ما يشبه العملة التي تُسرق ويقايض عليها، فيحدث صراع بين لصوصها الرماديين (رمز الضبابية والتشاؤم في الثقافة الغربية)، يواجههم حارس الزمن الذي –بدوره- يحمل اسم مباشر جدًا من نوعية مستر (زيكوندوس مونوتيوس أوركا)، والترجمة الحرفية للاسم تعني الأستاذ (ثانية- دقيقة- ساعة).
عمومًا، كون هذه النقطة لا تعني إنكاري أن العمل قيم  بلا شك، بدليل من تأثروا به لاحقًا من حذا مؤلفين كبار مثل كلايف باركر في روايته (سارقوا الأبد) عام 1992م، في حين سبق (ميشائيل إينده) الجميع بالفكرة منذ عام 1973م.
وهكذا تجاوزت التجسيد –سريعًا- إلى جماليات أخرى أعجبتني في العمل، ألا وهي "التفاصيل الصغيرة".

"هناك سر كبير لكنه عادي تمامًا، كل البشر يشاركون فيه، كل فرد يعرفه، لكن قلة قليلة من يمعنون التفكير فيه، معظم الناس يتقبلونه كما هو ولا يتعجبون لأمره ولو النذر اليسير، هذا السر هو (الزمن)".

من هذه الرؤية انطلق (إنده) إلى صنع عالم ضخم من التفاصيل، هذه التفاصيل بدأت تتفوق على نفسها إمتاعًا –في رأيي- منذ ظهور مبعوث مستر (أوركا).
السلحفاة (كاسيوبايا) التي أخذت على عاتقها مهمة إنقاذ (مومو)، والذهاب بها إلى منزل (اللامكان) الكائن في حارة (لم تكن أبدًا).
تلك الحارة التي لن لابد فيها من البطء كي تصل أسرع، وأن تمشي بالعكس (أي بظهرك) حتى تتقدم، ثم غابة الساعات.. شلال الزمن.. الصفحة السوداء.. الزهور.. نجوم السعد..

-نجوم السعد (Stemstunde):
يقول المؤلف على لسان الأستاذ (أورا):
"أحيانًا ما توجد على مدار العالم لحظات خاصة ينتج فيها أن جميع الأشياء والأشخاص، حتى أبعد النجوم بالأعلى، تتعامل مع بعضها بطريقة فريدة تمامًا، لدرجة إمكانية حدوث ما لم يكن ممكنًا لا قبل ولا بعد، وللأسف لا يستطيع الناس بوجه عام الاستفادة منها، وهكذا تنقضي ساعات الحظ السعيد دون أن يلاحظها أحد في الغالب، لكن إذا ما نجح شخص في التعرف عليها، فإن أشياء عظيمة تحدث في العالم".

ويضيف موزع الزمن في موضع آخر:
-"لو أن الناس عرفت ما هو الموت، لما خافوا منه، وإن لم يخافوا منه لما نجح أحد أن يسرق منهم زمن حياتهم".
لا تتوقف رؤية (إندة) عند هذا حد التنظير الفلسفي، بل عضدها الكثير من التفاصيل الخلابة، وهو ما تصاعد حتى وصل إلى ذروته في الربع الأخير من الرواية؛ بدءًا من حصار الرماديين للمنزل عن طريق سحابة دخان الزمن الميت.. وما ترتب عليه من كشف عن فهمنا -كقراء- لطريقتهم في تخزين الزمن.. عن طريق تجفيف زهور الساعات.. ثم لفها وتدخينها في سجائرها..
أخيرًا، خرج (أوركا) بخطته المضادة، فقرر موزع الزمن أن ينام لأول مرة منذ الأزل، مما تعطل وصول الزمن للعالم، فيتجمد كل شيء.
خلال هذه الفترة ستتزود (مومو) التزود بأحد زهور الساعات، ثم يتوجب عليها بصحبة (كاسيوبايا) أن يصلا لمخزن الرماديين، ويحرمونهم منه.
نجح (إينده) في حياكة زخم ممتع متواصل من التفاصيل، على خلفية رؤية فلسفية بالغة الشفافية، مما يجعلها أحد أروع الأيقونات العالمية لمن يهوون هذه اللون الأدبي.

************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"