الجمعة، 8 يونيو 2018

بين ثنيات (وشم أبيض)


يشير العنوان إلى وشم أبيض لأفعى تحيط الجسد بالكامل، لم يتم دقه كما هو المعتاد عن طريق صيغة تحقن تحت الجلد، بل عن طريق إزالة الميلانين تمامًا.
تقول الطبيبة (هناء): بأنها طريقة لم تر لها مثيل، لا يمكن أن تتم سوى عن طريق عملية جراحية، وحتى في حالة وجود هذه العملية، فإنها لابد وأن تجرم، لأنها تسبب سرطان الجلد.
كما مسار الرواية للدوران حول فكرة (تناسخ الأرواح)، علاوة على نظرية (يانج) حول (الوجدان الجمعي)، لعل من قرأ لـ د. أحمد خالد توفيق يذكرها جيدًا، بالأخص رواية (قصاصات) في سلسلة (سافاري)
أما شخصية (مود بيير)، صاحبة الوشم، فيحيط بها الكثير من الغموض، تربت بين أب أبيض قام بتغيير جنسه إلى أنثى، وأم تم اختطافها في الصغر من قبيلة أفريقية، يشاع أن أفرادها لا يمرضون أبدًا.
*******
ثاني تجاربي في قراءة عمل يحمل اسم (أسامة علام).
في المرة الأولى لم أستطع اكمال ما هو أبعد من فصلين (أظن أنها كانت رواية "الاختفاء العجيب لرجل مدهش")، قد يكون ذلك لعدم مناسبتها لذائقتي حينذاك، هذا ما جعلني أبدأ أولى صفحات (الوشم الأبيض) بحذر. لكن -للغرابة- خرجت من الرواية بانطباع مغاير تمامًا عن سابقتها.
وجدت أن صفحاتها نجحت في تحقيق معادلة مدهشة:
- لو كنت خرجت توًا من سنوات الانغماس في روايات الجيب، ستجد الرواية ليست بغريبة عن ذلك العالم، فهي عمل فانتازي، لا يمكن اتهامه بالسيرالية أو تعقيد اللغة، أو الخلو من التشويق.
- أما لو كنت من مثقفي (وسط البلد)، فستقرأ العمل كتجربة إنسانية بالغة العمق، تبحث في أسئلة عن (الاغتراب، العقل الجمعي، العنصرية، الوطن، المرأة)، تمت صياغته في سرد شاعري سلس، يمس الروح مباشرة.
تأخذنا الرواية إلى الطرف الآخر من العالم، حيث تدور أحداثها في (كندا)، تبدأ الأحداث مريض نفسي، تصادف أن جميع الأطباء المعالجين الذين تناوبوا على حالته.. انتحروا.
حتى جاء الدور على المهاجر المصري (أشرف مدني).
البداية شهية جدًا كما ترون. أعلم أن المؤلف يعيش في كندا، لذلك فهمت نقطة (من أين جاء بكل تلك التفاصيل عن الشوارع/ المزارات/ المواقف اليومية،/ فضلًا عن طبيعة العمل الطبي هناك)، لكن بوسعي تخيل أنه بذل مجهود أكثر بكثير، كي ينتقل بنا إلى أماكن أخرى خلال الرواية، تخص شخصيات فرعية، أماكن واقعية (مثل واحة سيوة، وقبائل الإنكا)، أو فانتازية كما أعتقد (مثل القبيلة الأفريقية التي تعتنق رياضة روحية خاصة).
يقولون أن (الفانتازيا) نوع من (الهروب)، غير أنني لا أتفق مع هذا الرأي بالضرورة، أحيانًا يتحول أدب الفانتازيا إلى نوع خاص من المواجهة.
يحدث ذلك عندما يرغب كاتب في إيجاد إجابة لأسئلة تخص حياته الشخصية، إلا أن التفاصيل الاجتماعية المتداخلة تمثل عامل تشويش يمنع صاحب القلم من تناولها في قالب (السيرة الذاتية)، أو (الرواية الواقعية)، فلا يتبق من حلول أفضل من (الفانتازيا) كي يعزل الأسئئة في صورة مجردة، بشكل يسهل التعاطي معه.
أعتقد أننا نرى في هذه الرواية، كل الهواجس التي تشغل المؤلف في غربته، قام بتوظيفها في قالب خيالي لم يخل من الأفكار التي قد لا يكون أول من تطرق إليها، لكن مزجها معًا في معالجة أصيلة تحمل بصمته الشخصية.
مشكلتي الوحيدة مع الرواية، تكمن في نهايتها.
كان يمكن استثمار الخط الفانتازي بشكل أكثر بكثير، بين (أشرف مدني) و(سباستيان)، لكن للأسف.. تم ابتساره واختيار قفلة تتجاهل كل ما كان بين الاثنين، وتنحاز لخاتمة -لنقل- واقعية.
لكن هذه النقطة لم تزعجني كثيرًا، بالقياس إلى الشحنة الروحية التي تملأك بها لغة الرواية بالإضافة إلى ما سبق من تفاصيلها.
سبب آخر جعلني لا أنزعج، يكمن في أنني أتعاطف مع شخصية (هناء).
هناك موجة على مواقع التواصل الاجتماعي، تمجد السعي وراء حياة متمردة تشبه الدراما أو الأفلام، كأن من المهين أن تمتلك حياة مستقرة هادئة.
ذلت قدم بطل الرواية (أشرف مدني) إلى الانخراط في هذه الموجة (للأمانة، حدث ذلك رغمًا عنه بسبب سباستيان)، إلا (هناء) -زميلته ومواطنته في الغربة- ظلت تمثل الشخصية الواقعية الصبورة التي تنشد حياة قوانينها بسيطة وواضحة، (اجتهد.. تنجح)، (تأقلم، استقم قدر الإمكان.. ترضى).
تركت (أشرف مدني) يخوض بحار التخبط والأسئلة الوجودية، إلا أنها لم تيأس، وظلت تنتظره عند الشاطئ، مع أنها ليست مدينة له بذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"