الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

الفصل الأول من (وراء الحواس):



الحاسة 5:
اللــــــــــــمس
وراء الحاسة:

بومة تحلق بجناح واحد


"محسن أبو ريان ماااات"
"محسن أبو ريان دبوه يا ناس"
ضجة .. زحام.. صرخات نساء تنبت من قلب الليل، أما الرجال فأحاط كبارهم بالجثة، يكبحون أمواج الزحام حولهم، والقشعريرة داخلهم، في حين حنجرة محسن صاحبة الصوت المداعب العالي، ها هي أمامهم، مشقوقة عرضيًا تنز دماءها.
إلى الأسفل قليلًا، اكتسى صدر جلبابه الأبيض باللون الأحمر، بينما يمناه على صدره تقبض على سكيـ... يمناه تمسك السكين الدامي؟ خمَّن الجمع المعنى الضمني لذلك!
هكذا تصير عبارة (ذبحوه) محل شك؟!
اندلعت شرارة الصيحات المشحونة:
ـ أيمكن أن يكون هو من...؟ (ذهول)
ـ محال! من اللامعقول أن يذبح أحدهم نفسه، من البشري الذي يمكنه الإقدام على ذلك؟ (مصعوقًا)
ـ ثم إن المرحوم كان مثالًا للعقل وخفة الظل! (حسرة)
ـ لعلك نسيت العصبية التي انتابته مؤخرًا، وكثيرًا ما كان يكلم نفسه. (غمغمة)
ـ ها هو السكين أمام أعيننا، ويده محكمة حوله، و... (يمد يده)
ـ لا تلمس شيئًا أيها الغر! اترك السكين مكانه، وليتصل أحدنا بالنقطة -يعني مركز الشرطة-. (غضب)
ـ أولًا: يجب أن نغطي الجثة إكرامًا لحرمتها. (خفوت)
ـ ليفعل أحدكم شيئًا. (تخبط)
ـ فليفعل أحدكم شيئًا. (المزيد والمزيد من التخبط)
جاء الدور على (ركابي) ليقوم بـ(النقد الذاتي). صرخ مدفوعًا بغيظه من تكرار العبارة الأخيرة، علّق بأن هذا -بالضبط- عيبنا؛ ألف عمدة يتكلم، ويطلب من الآخرين أن يتحركوا، بينما هو خيال مآتة في مكانه!
وجم الجمع إثر الصرخة الصافعة، في نفس اللحظة التي قرر فيها ركابي البدء بنفسه. دفع يده محتدًا داخل جيب (السيالة)، فعاند الهاتف داخلها أصابع ركابي المرتعشة، وإن التمس الرجل العذر لأنامله؛ فعلى بعد خطوة يطل الموت من أشنع شرفاته؛ جثة نُحِر عنقها، تنام على فراشها من التراب المختلط بالسائل القاني، بالإضافة إلى يد الجثة المتصلبة على سكينها، والتي تلقي باحتمال وارد أن يكون انتحارًا.
أبشع وسيلة انتحار  قد تخطر ببال!
كيف احتمل الفقيد ملمس النصل البارد، ثم قـ...!؟
جنّب ركابي بصره المنظر، فبوغت بعينيه في عينيْ الشيخ صالح المنتحي جانبًا، يقاطعه بإشارة من يده الممسكة بالمحمول، ما معناه (لقد اتصلت).
شق مولانا صالح طريقه بين الأكتاف المتلاصقة حتى بلغ محاذاة ركابي، على رأس الجثة. في نفس الوقت انتقلت عدوى الحركة للبقية، وها هي ذي ملاءة تبرز من العدم.. ليست الملاءة وحدها! أيضًا نهلة.. شقيقة محسن.
توقع الكل عدم جرأتها على الاقتراب أكثر، غير أن المرأة خالفت توقعات الجميع، وارتمت على صدره، لثمت شفتيه بجنون فاقشعرت أجساد الواقفين قرفًا أكثر منه استغرابًا؛ ليس من المعتاد أن تُقبِّل امرأة أخاها بهذه الطريقة، فما بالك لو كان الشقيق مقطوع العنق!
ـ أخي، عمري، لِمَ تركتني وحدي!؟ من لي بعدك في الدنيا!؟
تصلبت عيناها على السكين في يده، مما صعّد بانهيارها إلى مداه:
ـ لم فعلت ذلك بنفسك!؟ صدقني لم أقصد صدقني، لم أقصد.
جاء الدور على معتصم زوج نهلة لينقذ الموقف، ويحملها بعيدًا.
ركلتْه، عضتْه، شتمتْه، بينما قابل معتصم كل ذلك بتماسك هش.
صدمته لا تقل عن صدمتها؛ فقبل أن يكون محسن صهره، فهو رفيق طفولته وابن عمومته. يتشابهان في كل شيء، الوجه الأسمر البيضاوي، القامة، نبرة الصوت، حتى كثيرًا ما يظنونهما أشقاء.
انصرف معتصم وزوجه، فتعاون الرجال على تغطية الجسد النحيل المستلقي على ظهره، العنق نصف المقطوعة، الملامح الغاضبة أكثر منها متألمة.
تذكر ركابي -فجأة- شقًا منسيًا من الكارثة، فهتف مقاطعًا:
ـ أواه يا ربي! نسينا أمر الدماء! نحتاج عدسًا أصفر بسرعة.
أشعلت كلمته توتر الحشد، فتحرك ألف شخص لجلب العدس الأصفر؛ هذه النقطة -بالذات- لا تهاون فيها، ولا تواكل.
حيث تمتلك القرية دستورها الخاص من المعتقدات الشعبية، ومن بنود هذا الدستور:
مادة  :
ـ دماء القتلى لابد وأن تغطى بالعدس الأصفر، وإلا سيعود في صورة صُل.
(الصُّل هو مرادف الشبح في لغتهم الدارجة).
مادة 2:
ـ لابد أن يجري ذلك بشكل عاجل؛ فلو سبقتهم الدماء بأن جفت أو تشربها الثرى، لن يكون للحبيبات الصفراء -حينئذٍ- قيمة.
سيخرج الصُّل من الدماء المتخثرة، يحيل ليلهم إلى معزوفة رعب. المؤسف، أن نطاق التنقل للصُّل محدود في شارعه، فتتولد مأساة أنه لا يبلغ قاتله أبدًا، فيكتفي بطرق الأبواب القريبة مفزعًا ساكنيها، أو عله يستند بظهره على عمود الإنارة، بينما يعدّل من وضع عنقه المذبوحة بكفه، ومن وقت للآخر، يقطع الطريق على المارة طالما لم ينتصفوا ممن قطع عنقه.
هناك نسبة من أهل القرية سخروا -صغارًا- من هذه المعتقدات، ولعل ركابي في مقدمتهم. الآن كبروا.. تشربوا وتغلغل فيهم تراثهم بتناقضاته، غرابته، مخاوفه، فكان من الطبيعي أن يتغير موقف ركابي الآن، ويخلع عمامته إحباطًا:
ـ لا فائدة، جزء من الدماء قد جف فعلًا.
شدهت العيون وهي تنظر إلى حيث أشار؛ إذ تشربت الأرض خمس حجم الدماء، وتحول السائل الأحمر الكثيف إلى قشرة جافة متشققة، تنذر بأيام مظلمة قادمة.
وسط زحام الرجال في المكان، وزحام الخواطر السوداء في عقولهم، انشقت الأرض عن (منذر) ابن ركابي، وفي يده كيس مليء بالحبيبات الصفراء، أشاح منذر بوجهه عن الجثة إلى أقصى مدي؛ فالمفترض أن هذا القتيل -كما نعلم- هو رفيقه، الذي اقتسم ذكريات الطفولة والشباب، وكانوا يرقصون في زفافه منذ مدة ليست بالقصية.
أسرع صالح يجذب الكيس، وشرع يقوم باللازم:
ـ علنا -يا ركابي- ندرك ما يمكن تداركه.
قالها واقشعرّ من ملمس الحبيبات؛ كانت ناعمة في انسيابها من بين أصابعه كالماء.
انتهى صالح، فتلاقت النظرات القلقة المتبادلة على تساؤل واحد:
ـ هل هذا كاف؟ أسيمنع (الصُّل)؟
***********


اللون الأسود هو سيد الموقف، كما هو معتاد في زي النسوة أثناء العزاء.. فحُشرت الأجساد داخل المساحة الضيقة، حتى بدا وكأنهن جسمًا واحدًا متعدد الوجوه.. تتوسطهن نهلة.
الفراشة الحزينة التي اختبأت في شرنقة الصمت، بينما التمس الكل لها ألف عذر؛ لا يخفى على أحد أن (روحها معلقة بأخيها)، حيث توفي أبوهما في وقت مبكر، فكان لها الأب والأخ.. حتى أول ابن لها أصرت على تسميته باسمه.
سعى البعض أن يحملوا عن نهلة رضيعها، رفضت، أصرت أن تزرعه في صدرها، دون أن تدعه أبدًا، والعجيب أن محسن الصغير استكان تمامًا في مواجهة الجو الغائم.
لا تزال النساء يقدمن العزاء، بينما نهلة شاردة في عالم آخر.
"التحقيقات أثبتت أنه انتحار"
"الحادثة ظهرت في التلفاز"
"فمن النادر في هذه الدنيا أن يذبح أحدهم نفسه"
"لا بمكن لإنسان طبيعي أن يقدم على ذلك"
اعتصر الألم قلب نهلة تجاه الخاطر الأخير، فهي من جعلته غير طبيعي.
احتضنت نهلة محسن الصغير أكثر؛ فمشاعرها تجاه الراحل أكبر بكثير مما تحمله الشقيقة لشقيقها، إنه بالنسبة لها مثل...... تعجز عن الوصف!
الموضوع تجاوز لديها أسوار التعلق المرضي، فخرقت كل ما يمكن تصوره من حدود.
حَلِم محسن ذات مرة، بحسناء تدنو منه وسط الغمام، تقترب منه يحفها السحر.
تراجع محسن بتوجس، فوجدها تواصل الاقتراب فوق أجنحة خفية، تسير فوق بساط من لغة النظرات، حتى صارت بين ذراعيه، هنا صمتت لغة النظرات لتبدأ لغة الحاسة الأكثر حميمية: اللمس، حيث بهت محسن لجرأتها وهي تتجول -بحنين غريب- في  طرقات جسده، و...
جفل محسن بذعر، واستيقظ.
وجد نفسه في غرفته الصغيرة، وأن هناك جسدًا حقيقيًا يحجب عنه الضوء القادم من الشارع.
استغرق محسن دقائق حتى فهم؛ من؟ ماذا؟
ثم انتقل إلى المرحلة التالية بأن هب، وغضب، وثار، وصفع. من يومها ومحسن ينفر من نهلة، كلما رآها كان يشيح بوجهه ويستغفر بصوت عال.
تزوجت نهلة، فتصورت -من ناحيتها- أنها ستشفى، وأن الحبل السري المجنون بينها وبين أخيها سيضعف؛ لكن بمرور الوقت، لاحظت العكس، تعلقها به يزيد، حتى زوجها الذي اقترنت به، اكتشفت أنها اختارته -لا لشيء إلا- لأنه يشبه شقيقها.
خرجت نهلة من رحى ذكرياتها على مرأى (صباح)، أرملة محسن التي أقبلت تستند على ذراع بعضهن. هذا هو ظهورها الأول في العزاء، بعد أن أفاقت بالكاد من الصدمة.
عجزت نهلة عن تحمل رؤيتها، فهبت واقفة:
ـ ما الذي جاء بك؟
اتخذ الذهول مكانه بجوار الحزن على وجه صباح، الفتاة الصغيرة الحالمة، التي فُجعت باكرًا جدًا في زوجها؛ فما جنايتها في أن تذهب لتعزية ذكراه!؟ عجزت عن استيعاب سبب تعامل نهلة معها وكأنها غريمتها، لا أرملة شقيقها!
نهضت أم محسن بأسرع ما سمحت به شيخوختها، فسندتها النسوة حولها، ليجدوها تزجر ابنتها بقولها:
ـ ماذا بك يا بنية!؟ قلبي يوجعني على أخاك، فلِمَ توجعينه أكثر بما تفعلينه!؟
انفجرت نهلة أكثر، واعتصرت ابنها في حضنها لدرجة بدئه في البكاء:
ـ كيف تجرئين على القدوم وأنت يا بنت الـ... -التفت إلى والدتها- إنها السبب يا أمي.
وسقطت نهلة على ركبتيها لتكمل في نهنهة عالية:
ـ وأنا السبب قبلها!
اشتعلت ملامح أم صباح إثر إهانة ابنتها، فهرعت والدة نهلة تلتمس الطريق نحوها وتعتذر، تحدثت بكلام مختلط مكلوم عن ابنتها، والصدمة، و... و...
في المقابل، انطلقت نهلة كالسهم نحو غرفتها، فأغلقت خلفها بابها.
في الداخل، انهارت قدرة ركبتيها على التماسك، فانثنتا تحتها؛ وبمحاذاتها تحت السرير كومة كتب غريبة، بالإضافة إلى طست به رفات أعشاب محترقة.
***********
اقترب أربعين محسن، فاستجاب معتصم لطلب زوجته أن تبيت عند أمها، وبررت بالإعداد لذكرى الراحل، ومساعدة والدتها بعمل (المنين) -خبز يوزعونه في أربعين الموتى- ومن به ثم الخروج إلى المقابر.
جاءت الصبية هاجر تلهث إلى نهلة.
ـ يا خالة نهلة، يا خالة نهلة.
ـ ماذا هناك يا فتاة؟ خيرًا؟!!
تحدثت الصبية بفيض لاهث من كلماتها، وإشارات يدها:
ـ أمي رأت بومة على عمود الإنارة، فتقول لك انتبهي على الصغير.
* دستور التراث الشعبي:
مادة 3:
في كل مكان على أنحاء المعمورة، يحمل ظهور البومة رمزية خالدة للشؤم.
أما في قرى أسوان، تقوم بأدوار أخرى أفزع؛ إذ يشيع أنها تتغذى على دماء الرضع، تحوم حول أي بيت فيه وليد جديد، ثم تتحين الفرصة لتدفع منقارها في أنفه، وتستنزف دماءه حتى آخر قُطيرة.
أسرعت نهلة إلى صغيرها، يلهو على الأرض برفقة لعبة قديمة.
ضمته إلى صدرها بقوة زائدة، ففزع الرضيع ليبدأ في البكاء.
ـ نام يا حبيبي نام، وأذبح لك جوزين حمام.
التهم التوتر روح نهلة، وفقدت أعصابها جراءه، فهتفت في هاجر التي تعلم يقينًا أنها تتفرج في الخارج:
ـ هاجر، ألم تنصرف البومة؟
جاءها الرد مدثرًا بسحابة من الهدوء:
ـ نعم، انصرفت.
أعقبت هاجر كلامها بنفس السكينة:
ـ كم هو منظر فاتن يا خالة! ليتك رأيتِه!
ـ أي منظر هذا؟!
ـ منظرها. لم أتخيل يومًا أن أرى بومة تطير بجناح واحد!
***********


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"