اللون
الأسود هو سيد الموقف، كما هو معتاد في زي النسوة أثناء العزاء.. فحُشرت الأجساد
داخل المساحة الضيقة، حتى بدا وكأنهن جسمًا واحدًا متعدد الوجوه.. تتوسطهن نهلة.
الفراشة
الحزينة التي اختبأت في شرنقة الصمت، بينما التمس الكل لها ألف عذر؛ لا يخفى على أحد أن (روحها معلقة بأخيها)، حيث توفي أبوهما
في وقت مبكر، فكان لها الأب والأخ.. حتى أول ابن لها أصرت على تسميته
باسمه.
سعى
البعض أن يحملوا عن نهلة رضيعها، رفضت، أصرت أن تزرعه في
صدرها، دون أن تدعه أبدًا، والعجيب أن محسن الصغير استكان تمامًا في مواجهة الجو
الغائم.
لا تزال النساء يقدمن العزاء، بينما نهلة
شاردة في عالم آخر.
"التحقيقات
أثبتت أنه انتحار"
"الحادثة
ظهرت في التلفاز"
"فمن
النادر في هذه الدنيا أن يذبح أحدهم نفسه"
"لا
بمكن لإنسان طبيعي أن يقدم على ذلك"
اعتصر
الألم قلب نهلة تجاه الخاطر الأخير، فهي من جعلته غير طبيعي.
احتضنت
نهلة محسن الصغير أكثر؛ فمشاعرها تجاه الراحل أكبر بكثير مما تحمله الشقيقة
لشقيقها، إنه بالنسبة لها مثل...... تعجز عن الوصف!
الموضوع
تجاوز لديها أسوار التعلق المرضي، فخرقت كل ما يمكن تصوره من حدود.
حَلِم
محسن ذات مرة، بحسناء تدنو منه وسط الغمام، تقترب منه يحفها السحر.
تراجع
محسن بتوجس، فوجدها تواصل الاقتراب فوق أجنحة خفية، تسير فوق بساط من لغة النظرات،
حتى صارت بين ذراعيه، هنا صمتت لغة النظرات لتبدأ لغة الحاسة الأكثر حميمية: اللمس،
حيث بهت محسن لجرأتها وهي تتجول -بحنين غريب- في
طرقات جسده، و...
جفل
محسن بذعر، واستيقظ.
وجد
نفسه في غرفته الصغيرة، وأن هناك جسدًا حقيقيًا يحجب عنه الضوء القادم من الشارع.
استغرق
محسن دقائق حتى فهم؛ من؟ ماذا؟
ثم
انتقل إلى المرحلة التالية بأن هب، وغضب، وثار، وصفع. من يومها ومحسن ينفر من
نهلة، كلما رآها كان يشيح بوجهه ويستغفر بصوت عال.
تزوجت
نهلة، فتصورت -من ناحيتها- أنها ستشفى، وأن الحبل السري المجنون بينها وبين أخيها
سيضعف؛ لكن بمرور الوقت، لاحظت العكس، تعلقها به يزيد، حتى زوجها الذي اقترنت به،
اكتشفت أنها اختارته -لا لشيء إلا- لأنه يشبه شقيقها.
خرجت
نهلة من رحى ذكرياتها على مرأى (صباح)، أرملة محسن التي أقبلت تستند على ذراع بعضهن.
هذا هو ظهورها الأول في العزاء، بعد أن أفاقت بالكاد من الصدمة.
عجزت
نهلة عن تحمل رؤيتها، فهبت واقفة:
ـ
ما الذي جاء بك؟
اتخذ
الذهول مكانه بجوار الحزن على وجه صباح، الفتاة الصغيرة الحالمة، التي فُجعت
باكرًا جدًا في زوجها؛ فما جنايتها في أن تذهب لتعزية ذكراه!؟ عجزت عن استيعاب سبب
تعامل نهلة معها وكأنها غريمتها، لا أرملة شقيقها!
نهضت
أم محسن بأسرع ما سمحت به شيخوختها، فسندتها النسوة حولها، ليجدوها تزجر ابنتها
بقولها:
ـ
ماذا بك يا بنية!؟ قلبي يوجعني على أخاك، فلِمَ توجعينه أكثر بما تفعلينه!؟
انفجرت
نهلة أكثر، واعتصرت ابنها في حضنها لدرجة بدئه في البكاء:
ـ
كيف تجرئين على القدوم وأنت يا بنت الـ... -التفت إلى والدتها- إنها السبب يا أمي.
وسقطت
نهلة على ركبتيها لتكمل في نهنهة عالية:
ـ
وأنا السبب قبلها!
اشتعلت
ملامح أم صباح إثر إهانة ابنتها، فهرعت والدة نهلة تلتمس الطريق نحوها وتعتذر،
تحدثت بكلام مختلط مكلوم عن ابنتها، والصدمة، و... و...
في
المقابل، انطلقت نهلة كالسهم نحو غرفتها، فأغلقت خلفها بابها.
في الداخل، انهارت
قدرة ركبتيها على التماسك، فانثنتا تحتها؛ وبمحاذاتها تحت السرير كومة كتب غريبة، بالإضافة
إلى طست به رفات أعشاب محترقة.
***********
اقترب
أربعين محسن، فاستجاب معتصم لطلب زوجته أن تبيت عند أمها، وبررت بالإعداد لذكرى
الراحل، ومساعدة والدتها بعمل (المنين) -خبز يوزعونه في أربعين الموتى- ومن به ثم
الخروج إلى المقابر.
جاءت
الصبية هاجر تلهث إلى نهلة.
ـ
يا خالة نهلة، يا خالة نهلة.
ـ
ماذا هناك يا فتاة؟ خيرًا؟!!
تحدثت
الصبية بفيض لاهث من كلماتها، وإشارات يدها:
ـ
أمي رأت بومة على عمود الإنارة، فتقول لك انتبهي على الصغير.
* دستور التراث الشعبي:
مادة 3:
في كل مكان على أنحاء
المعمورة، يحمل ظهور البومة رمزية خالدة للشؤم.
أما في قرى أسوان، تقوم
بأدوار أخرى أفزع؛ إذ يشيع أنها تتغذى على دماء الرضع، تحوم حول أي بيت فيه وليد
جديد، ثم تتحين الفرصة لتدفع منقارها في أنفه، وتستنزف دماءه حتى آخر قُطيرة.
أسرعت نهلة إلى صغيرها، يلهو على الأرض
برفقة لعبة قديمة.
ضمته
إلى صدرها بقوة زائدة، ففزع الرضيع ليبدأ في البكاء.
ـ
نام يا حبيبي نام، وأذبح لك جوزين حمام.
التهم
التوتر روح نهلة، وفقدت أعصابها جراءه، فهتفت في هاجر التي تعلم يقينًا أنها تتفرج
في الخارج:
ـ
هاجر، ألم تنصرف البومة؟
جاءها
الرد مدثرًا بسحابة من الهدوء:
ـ
نعم، انصرفت.
أعقبت
هاجر كلامها بنفس السكينة:
ـ
كم هو منظر فاتن يا خالة! ليتك رأيتِه!
ـ
أي منظر هذا؟!
ـ
منظرها. لم أتخيل يومًا أن أرى بومة تطير بجناح واحد!
***********
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق