الجمعة، 23 سبتمبر 2016

رواية (الأمسية المظلمة) الحلقة 1:

محمود، بتوجس:
- أشعر وكأنني موديل خلف واجهة زجاجية، ينتظر قذفه بالطوب في أي لحظة.
داليا، توافق:
- وأنت! كأنك تقبع داخل عقلي، وقرأت ما فيه بالحرف!
مصطفى، يُحمّس:
- لا أشارككما الرأي، ثقا أننا سنكون رائعين، قل شيئًا من عندك يا ياسين.
تحولت الأنظار إلى شاشة عملاقة احتلت الجدار الجانبي، وأطل منها زميلهم الرابع.
شفتاه تحركتا بما يوحي أنه يجيب، وإن خرج الصوت واهنًا تمامًا.
مال محمود بجسده الممتلئ نحو الحاسب النقّال، وأعاد ضبط الإعدادات السمعية لبرنامج محادثات الفيديو، بضعة نقرات، ثم رفع رأسه نحو الشاشة يهتف:
-ألو.. ألو، تستطيع أن تتكلم الآن يا بلديات.

أحاط ياسين سماعتي الأذن بكفيه، ثم خاطبهم:
- هيه، أتسمعونني الآن؟
أكد زميلهم الصعيدي أنه أكثرهم توترًا، ويُعقد داخل عقله –حاليًا- مؤتمر شعبي من الهواجس، ومع ذلك؛ يُخفت صوتها –فقط- نتيجة وجوده معهم.
-إذا حظي المرء بصُحبة طيبة، ما الذي يهمه في تواجد جمهور (كثيف أو قليل)، أو أدائه الشكلي أمامهم، و.... واخبروني صحيح: -استوطنت الحدة صوته فجأة- لماذا لم يحضر أحد حتى الآن؟!
هدر التكييف بالأعلى، مستمرًا في ضخ هواءه البارد، وإن فشل –تمامًا- في إثلاج صدور الثلاثة في الأسفل، ولا حتى رابعهم المشارك عن بُعد.
سعت داليا لدفن التوتر بتأمل أظافرها، وكررت أنها ليست مطمئنة:
-كل الكلام الذي رتبته في ذاكرتي.. انمحى تمامًا، كما أن لديّ سبب آخر يضاعف ضغطي العصبي، اليوم –كما تعلمون- عيد مولده.
مصطفى:-أنتِ فاقدة للذاكرة أغلب السنة يا صديقتي.. باختيارك.
أثارت الإضافة الأخيرة حفيظة محمود، فعدل –بتوتر- وضع الملصق المطوي تحت إبطه، ورجاهما ألا يفتحا هذه المواضيع ثانيةً، إنه –من ناحيته- يجاهد كي يتناساها، ويعترض على سيرهما فيها من الأساس.
استمر الأصدقاء في النقاش، إلى أن قاطعهم مصطفى بعد انتبه فجأة:
- ملصق الحفل، تصوروا أننا لم نعلقه بعد!
محمود:
- حقًا؟؟ بالفعل صحيح، لكن أين تركناه؟
-تحت إبطك يا أستاذ!
تعاون محمود ومصطفى في تعليق الملصق، بينما داليا خلفهما بأمتار، توجهُّهما:
- كلا، إلى اليمين يا محمود، ارفع قليلًا من عندك يا مصطفى، تمام، ثبتاها على هذا الوضع.
نفذ الزميلان، ثم تراجعا إلى حيث تقف، ونظرا إلى الصورة بوضعيتها الجديدة.

*******
تلعن مؤسسة (ليل) الثقافية عن أمسية بنكهة الخيال.
تستضيف حفل توقيع رباعي، يناقش روايات:
- (الفضاء الآخر)، (ياسين أحمد سعيد ).
- (راديو)، ( محمود عبد الحليم ) .
- (أنا و الشيطان)، ( مصطفى جميل).
- (زورستر)، ( داليا مصطفى صلاح).
يقام الحفل في مكتبة (ليل) فرع الهرم، في تمام الثامنة مساءًا.

*******
جلجلت –فجأة- ضحكة عالية من محمود، فالتفتت إليه الأنظار باستغراب.
-اقرأوا الـ... ههههه.. افتتاحية.. الملصق.. ههههه.. مكتوب (تلعن مؤسسة كذا)!
تحول مصطفى إلى داليا بنظرة خاوية، يفترض أنها هي!
هي من أشرف على إعداد الملصق، وأتفق مع المصمم والمطبعة؛ كيف تقع في مثل هذا الخطأ؟!
عدلت داليا من وضع ياقتها، ثم بررت بخجل:
-لا تلقيا بالًا، من يدري؟ لعل لفظة (تلعن) تناسبنا أكثر.

*******
احتلّ الثلاثة أماكنهم على المنصة، أمام كل منهم كارت تعريف منمق بخط اليد؛ من حسن الحظ أن بينهم موهوب في الخط العربي مثل مصطفى.
حانت لحظة تقديم الحفل، فاقتسموا معًا ابتسامة مغمسة بالتوتر، ثم التفتوا إلى بعضهم البعض، وبالطبع، نال محمود الحظ الأوفر من سهام هذه النظرات، فقد ارتدى ثوب (الاعتماد على الذات) قبيل الإعداد للأمسية، وتحمس لفكرة أن يقدموا أنفسهم بأنفسهم.
برر بأنهم استثنائيين، وليسوا صغارًا حتى يبحثوا عن "آخر" يقوم لهم بهذا الدور، ثم وعد بملء فمه أن يتولى شرارة البدء، على أن يتناوبوا أطراف الحديث تباعًا.
أدرك محمود –متأخرًا- أنه تسرع بذاك الوعد، فالوضع مربك لأبعد مدى، مهما كان عدد الجمهور قليلًا!
هرب بعينيه للحظات، بحثًا عن أفكاره الهاربة، ثم عاد بما نجح في اصطاده منها، ونطق جملتين بالضبط، ثم لكز رفيقه بجواره كي يتولى دفة الحديث، فرد مصطفى عليه بمثلها، وكأنما يعترض بمنطق (مخادع! أهذا التمهيد الهزيل هو ما وعدتنا به؟).
المشكلة أن مصطفى عبارة عن ناطحة سحاب بشرية، بطول يدنو من المترين وعرض يقارب المتر، أي أنه – غالبًا- كسر ضلعين لمحمود في تلك المداعبة الأخيرة.
-شكرًا صديقي محمود، و..ماذا كنت أقول؟! إنني.. أقصد.. كنت أظنني وحيدًا في انحداري حالي من أحد مجاذيب أدب الرعب، إلى (ملعون) به، لولا أنني اكتشفت خطأي، بمجرد تعرفي على الجالسين بجواري، لذلك؛ لي كل الشرف أن يكون أول حفل توقيع في حياتي.. بجوارهم.
تورد وجه داليا خجلًا من الإطراء، في حين هز محمود رأسه بسعادة، وقد نسى قلبه الطيب تلك الكدمة منذ ثوان.
على الجهة الأخرى، شاركهم ياسين من الأعلى بابتسامة باهتة، لم يتضايق من نسيان مصطفى له، فقد اعتاد -منذ زمن- على وضعه الجديد ككيان نصف موجود.
غطت داليا وجهها بكفها لثانية، وكأنما تودع وجه داليا الخجولة، لتستقبل تلك الأخرى الأكثر اجتماعية، ثم أوضحت أن كل كاتب سينفرد بربع ساعة للحديث عن كتابه، يليها خمس لإجابة أسئلة الحضور، وفي النهاية يجئ دور التوقيع.
ثم أضافت أن قص شريط البداية -وفقًا لبرنامج الأمسية كذلك- سيكون من نصيب الطيف المغترب؛ ياسين.
(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"