الجمعة، 1 أبريل 2016

هشام يحيى وما قبضه من ريح الأيام



بعض الكتب "مسلي"، والآخر "مرهق"، الأول له وقع (الونس)، فتغلق صفحته الأخيرة وكأنك تودع صديق عزيز.
أما الثاني فيستنزفك بصدمات متتالية، ومع ذلك لا تملك إلا اكماله حتى النهاية.
قلة من الأعمال جمعت بين الطابعين، منها في رأيي (قبض الريح).
الكتاب  صادر عن روافد للنشر والتوزيع 2014م، ويأتي في 390 صفحة من تأليف الصحفي هشام يحيى.
تباطئت كثيرًا فى آخر 90 منها، لأننى لم أرد أن ينتهي سريعًا، أما في أول 100 منه، طننته تأريخًا لكواليس صاحبة الجلالة منذ التابعي والأخوان أمين  ومحمود عوض وحتي العصر الحالي، وهذا دعاني للتحمس وترشيحه لزميلة صحفية، ثم لم ألبث أن أدرك أنني تسرعت، فقد التحول العمل فى منتصفه إلى رصد للشارع المصري بشكل عام:
إعلاميين.. سياسيين.. فنانين..جماعات إسلامية..قصص حب لم تخلو من علاقات غير مشروعة.. 
ومضات  خاطفة مسروقة من حى شبرا.. المهمشين.. العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.. مدى ارتباط الاثنين بالسياسة..  
أكثر ما غبطته فى العمل؛ تنقله السريع من حكاية إلى حكاية، كل منها يحوى خلاصة الدراما مقطرة، بل صالح لأن يتُخذ -وحده- كموضوع لقصة أو رواية طويلة.
انتهت مراجعتي للكتاب، وتبقى فقط بضعة أسئلة، ليست انتقادات، بل أسئلة فحسب، كما أنها لا تخص (قبض الريح)، بل هي إلى التأمل العام أقرب:

 - أكان لابد من العامية يا عم هشام؟!
هذه الجملة رددتها في سري بضيق طوال رحلتي مع الصفحات، فى اعتقادي أن الكتاب كان ليعيش عمرًا مديدًا فوق عمره لو جعله بالفصحى، السرد على الأقل، ويمكن الابقاء على عامية الحوار كما هي.

- أردته أن يأتي بلسان البسطاء الذين يتحدث عنهم؟
هذه رد يسوقه الكثير من زملائي مؤيدى العامية، وأرد بخصوصه؛ أن لغة الكاتب هي العامل الأول فى اختيار جمهوره.
الدارجة منذ عامين، مختلفة عن اليوم، وفى شبرا عنده غير كوم امبو عندي، بالإضافة لأن الكتاب تناول شخصيات عامة مصرية تهم الوطن العربي بأكمله، أي مهما بلغ المجهود في تبسيط العامية، أعتبره استبعاد لحق جمهور عربي عريض في الكتاب، أقله؛ يجعل القراء على مسافات غير متساوية من فهم العمل.

- للعامية دور هام في توثيق اللهجات والمصطلحات الخاصة بفترة معينة؟
منطق وجيه، لكن لو دققنا جيدًا، سنجد أن المفردة الفصحى لها نفس التشكيل (وربما النطق) فى مصر.. الشام.. العراق.. المغرب.. إلخ.. أما العامية فسماعية بالدرجة الأولى، لذلك أتخيل مثلًا: ماذا لو جاء (قبض الريح) فى صورة تسجيلات ساوند أو يوتيوب؟
هنا كانت العامية لتصبح نقطة قوة فى العمل، وفى محلها تمامًا.
ثم ماذا عن الترجمة؟
فى زمن الفصحي نحتاج مترجم من العربية إلى الإنجليزية، وفى الأغلب هو دارس فى كلية آداب أو ألسن، أما عند التوسع فى العامية، سنحتاج إلى تشعبات تخصصية أعقد كثيرًا، سنحتاج إلى متخصص فى النقل إلى الانجليزية عن العامية الصعيدية نهاية 2016م، أو الشبرواية 2014م، أو جنوب لبنان سنة كذا.

- هل هو أدب اعتراف.. أم تطهير.. أم تصفية حسابات؟
كنت فى السابعة عشرة من العمل، عندما قال لنا مدرس اللغة الفرنسية:- ترجمة الكلمة (autoBiographie)، لكن.. لكنني لا أستسيغها.
ووضح -مثلًا- بما نذكره عن (أيام) طه حسين، وما وثقته عن سوء معاملة أخيه له في فرنسا.
أثارت الملحوظة تساؤلات مبكرة كثيرة داخلى  عن السير الذاتية، أو أدب الاعتراف.
أولًا: الأساس فى الأدب.. (الإتاحة).. فلا نستطيع منع أحد من البوح بما نريد.
لكننا في النهاية "بشر".

"إنت ياض.. هوه إنت متعين عشان تقعد على مكتب.. قوم ياروح أمك اقعد على ترابيزة المتدربين)..
الموقف ده عايش جوايا لغاية دلوقتي.. ودائمًا بيدفعني لوضع أي محرر جديد في الجورنال تحت حمايتي ورعايتي"

هذا الموقف الموجع موجود فى صفحات الكتاب، وبصراحة، لو كنت مكان عم هشام، أبسط انتقام من تلك المرأة هو أن أذكرها بالاسم.
عفوًا، أنا بشر كما كنت أقول منذ قليل، الفكرة أن هذا سيستدعي التساؤل أعلاه حول دوافعي:
- هل الاعتراف، أم التطهير، أم تصفية الحسابات؟
- ماذا لو هناك أبعاد للموقف لا نعلمها، كأن يكون هشام يحيي أسبق فى الإساءة إليها، مما جعله محتقنة تجاهه، وتنتظر أقرب ذريعة لاتخاذ رد فعل.
لن نعرف أبدًا،  فأدب السير الذاتية لا يمنح سوى زاوية واحدة، كنت أتمنى لو لم يذكر هشام يحيى اسم الصحفية، سيفتح ذلك الباب لأن نستميت لأجل استخراج عذر، فنقول مثلًا:- بالتأكيد أراد التطرق إلى مبدأ المعاملة نفسه، بدليل أنه لم يذكر الاسم.

- هل بإمكان أدب الاعتراف  أن يكون موضوعيًا؟
بالتأكيد يمتلك أى منا أصدقاء وأعداء، فهل يمكن أن أساوي فى نشر الغسيل القذر للجميع، أم سأطبطب على المقربين، والعكس مع من سواهم.
عمومًا، في رأيي: لا غضاضة من أن يكتب شخصة عامة عن أحد العامة، ولو بسوء، فجميعهم نخبة في بعضهم البعض، ولن يعدم أحدهم منبرًا للرد، لكن من أين لشقيق طه حسين بواحد؟

- شجاعة أم لا مؤاخذة؟
يفرد الكاتب فصلًا لعلاقته غير الشرعية مع جارته فريدة، التي استمرت لأعوام طويلة،  إلا أنها لم تكن الوحيدة، توجد شقته الخاصة وأيام الشقاوة.
لنا وقفة طويلة عند هذا الجزء.
استفدت كثيرًا من حكايات عم هشام عن فساد الوسط، والذى تورط فيه شخصيًا بعض الأحيان، بصدق استفدت، أقله لن أتفاجئ إذا دخلت نفس المجال، واجهتني مواقف مشابهة، بحكم أن لدى معرفة مسبقة.
لكن أى استفادة نلتها بمعرفة جانب شخصي فاضح بهذا الشكل؟
كنت أتمني لو لم يعلن صراحة أنه ليس (أدب اعتراف)، وقتها سأستمر بالتماس حسن النية وأقول: لعلها ليست سيرة ذاتية خالصة، ربما حوت بعض الخيال لمبرر درامي، وهذا الفصل جزء منه.
بصراحة، كان سيسعدني هذا المخرج كثيرًا، خصوصًا أن هذا الجزء كان قوي أدبيًا، لكن الكاتب أصرّ أن العمل حقيقي 100%، وبالتأكيد لا أستطيع أن أخاطب عم هشام يحيى خريج  المعهد الأزهري، فأذكره بالحديث الشريف:
- كل أمتي معافى إلا المجاهرون؟
كلا، كلا، الاتهامات بالداعشية والإرهاب الفكري ليست بعيدة على أحد. 
لكن أليس ما أقوله رأيًا شخصيًا دون فرضه على أحد، فلم أطالب بحرق الكتاب، أو إعدام مؤلفه، ألست من سيقع عليه "الإرهاب الفكري" حينئذٍ.
على أى حال، ليس هذا السبب الوحيد، فالسطر السابق سيضفي علي سمت وعظي لا يناسبني، بحكم أنني لست خالي الوفاض من الخطايا، وبالتالي لا أستطيع أن أرجم أحدًا بحجر.
كما أننا لسنا أقوى إيمانًا من أسلافنا القدماء، وهؤلاء لم يبيدوا ألف ليلة وليلة وأشعار أبو نواس وبشار بن برد، بدليل أنها وصلتنا اليوم، فيظل مبدأ الاتاحة قائمًا أمام من يريد أن يكتب، وفى المقابل، القراء أحرار ما بين الإقبال على العمل أو النفور، أو مطالعته نع الاحتفاظ بحقهم فى التحفظ على بعض النقاط، وها أنا ذا أفعل.
يقول هشام يحيى أنه فخور بامتلاكه الشجاعة، كي يتمكن من الجهر بأسرار على هذه الدرجة من هذه الحساسية؟
ومن قبله أحد الكتاب المشاهير، اعترف في مذكراته بممارسة الشذوذ.
سؤالي هنا:
-هل هذه شجاعة حقًا؟ 
أحاول تخيل جيل الأبناء والأحفاد، وكيف يمكن أن يعيروا فى أي لحظة بذنب لم يقترفوه!
وكلها كانت ذلات قابلة لأن تظل قيد ستر الله، لكن هذا لم يحدث لأن الآباء كانوا "شجعانًا".
لا أدري لماذا ذكرنى الرد برواية (ألدوس هسكلي): (عالم جديد شجاع).
عقب زميل موريتاني على كلامى بأن هذا "أدب"، وأنا مثله، تمنيت لو كان كذلك، أو أو على الأقل -كما نوهت أعلاه- يُترك الأمر مفتوحًا دون تصنيف، مما يلزمنى بالتزام حسن النية، واعتباره أدبًا صرفًا.
لكن المشكلة فى "أدب الاعتراف" أنه يقع فى منطقة رمادية مطوية بين الشقين: الأدبى، و"الخبرى".
قال مؤلف الكتاب -مثلًا- أن "فريدة" اسم مستعار، لأن العشيقة القديمة لا تزال على قيد الحياة، ولها عائلة، ما احتمالات أن يقرأ الكتاب أحد قاطني الحي القديم لعم هشام، وكلنا نعرف أننا شعب يدمن حل الكلمات المتقاطعة، ما احتمالات أن يتعرف أحدهم على الشخصية الحقيقية، وأى أذى يمكن أن يلحق بأبناءها عندما يعرفون أن والدتهم كانت.. ولا مؤاخذة.
لا أتهم أو أنتقد أو أعظ، فقط كل ما أملكه هو مجرد تساؤلات.
ثم دعوني أضيف تجربة شخصية فى هذا الصدد، فى عام 2009م قرأت عن  كاتبة رعب قاهرية  كونت تجمع أو صالون للمهتمين بالمجال، أذكر جيدًا ظروف تعثري فى الخبر هنا فى قريتي؛ يعود الفضل إلى هوايتي فى قراءة الأوراق التي يلفوا شطائر الطعمية.
عام 2013 أسست فكرة مشابهة من أسوان هنا، وقد منحتني تجربة الزميلة طاقة إضافية بما تحمله من سابقة، لأفاجئ باتصال من صديق سكندري، يخبرني أنه ظل أسير اكتئاب لمدة طويلة، لكنه عاده لنشاطه القديم جراء العدوى.. احم.. مما نفذه أخيكم..
هكذا مرت شعلة خافتة من القاهرة إلى أسوان إلى الإسكندرية، وبالتأكيد، ليس لي فضل فيما حققه زميلي السكندري لاحقًا، من لديه الإستعداد الجيني للنجاح، يفعلها عاجلًا أو آجلًا، فلم أكن أكثر من عامل محفز، مررت ما أنا مدين فيه بالأصل من سالي، ومن يدري، عل فى حياتها من كان مثال محفز أسبق.
كذلك من يتأثر بهشام يحيى فى أيام الشقاوة، حينها لن يكون الأخير هو المسئول، لكنه بالتأكيد قد يكون عامل محفز.. شجاع.

"مين اللي المفروض كان يكتب عن التاني؟
مين ممكن كان ينصفني في كلمة لما أموت غيرك؟ مين أمين على أسراري وحكاياتي غيرك؟ مين عارف مبرراتي في كل موقف اتخذته في حياتي غيرك؟ بدل ما أشرف على فرحك ويوم زفافك وأقف أستقبل المهنئين.. أشرف على سرادق العزاء فيك".

يأتي (قبض الريح) كتخليد لذكرى الصحفي النجيب (وليد)، تلميذ المؤلف.
فتسترسل فصول العمل كدردشة طويلة بين الأستاذ والمعلم.
وليد يشبه العديدين من جيلى؛ مثالي، مجتهد، وأيضًا؛ مندهش أمام الصدمات التي يعرفها عن ربيبه في المهنة.
أعتبر (وليد) شخصيتي المفضلة فى كتاب (قبض الريح)، ووليد ظل على حب عم هشام رغم كل سمع، وأنا كذلك، أحببت عم هشام، ومن يقرأ الكتاب سيعرف أن هناك أسباب موضوعية تدفع لذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"