الأربعاء، 20 يناير 2016

يوم اختفى هرمون التستسيرون

صدت لمساته المقتحمة، واعترضت بخشونة هى إلى الضعف أقرب أن:

-أودعنا جثمان أمى بالأمس فقط.

برر أنه بدوره يشاطرها الحزن على تلك المرأة الطيبة، لكنه هذه نقرة، وحقوقه الشرعية نقرة أخرى.

ثم ما التعارض فى أن يكون القلب حزينًا، بينما الجسد فى .. فى.. كما تعرفين!

فى الصباح التالى، ارتجف جفناها مرة، ثم مرتين، ثم انفتحا أخيرًا بوسواس من شيطان الاستيقاظ، بينما تقلصت عضلات جسدها كليًا.
سيؤلمها لو صحت على تماس يين جسده وجسدها، سواء احتضان، أو التفاف ساق بساق.

استغرقت لحظات حتى تعى جغرافيا موقعمها على السرير بالضبط، وحمدت الله على.. النجاة، فقد وجدت نفسها بالغريزة، منكمشة على نفسها فى الطرف البعيد منه، ثم اكتمل امتنانها عندما التفتت فلم تجده أصلًا.

ليس موجودًا بالمنزل بكامله.

نأى خاطرها تمامًا عن سؤال؛ أين عساه ذهب؟ وانشغلت بالاستظلال تحت دش الماء البارد.

للأسف، انزلق القطرات بكاملها فوق جلدها، فلم تنفذ حلًا لتلك اللزوجة التغلغلة روحها.

تجففت بالمنشفة، ثم تأملت صفوف ملابسها عبر المصراعين المفتوحين للدولاب.

أين عساه ثوب الأسود مناسب ليوم عزاء جديد؟

للأسف، الوحيد الذى تمتلكه منه على أثر ليلة الأمس، ودت لو تنادى بصوت عال على أمها، لتسأل عن مكان الآخر القديم.

ثم...انتبهت، القديم قد اهترأ منذ سنوات، أما والدتها، فهى من ترغب فى ارتداء الأسود لأجلها.

هبطت إلى ناصية الشارع تسابق خيوط الشمس التى بدأت شروقها، ولم يستوقفها سوى أم جميل، خرجت السابقة من بقالة زوجها بسرعة، وشدت على يدها تعزيها.

نفس الشدات وجدتها فى انتظارها بدار المناسبات الملحق بالكنيسة.

الزحام كان شديدًا، فتمدد الركن المكرس للنساء بتلقائية، ليتوسع إلى التهام المكان الشاغر الذى يفترض أنه للرجال.

فجأة، توقفت بعضهن عند هذه الملحوظة لدقائق:
- وأين ذهب الرجال؟ لماذا لم يأت منهم ولو فرد واحد، بما فيهم عائلة الفقيدة نفسها؟
عند المساء، فرضت هذا الطارئ الغريب نفسه، فلم تعد كلمة (مصادفة) تصنيفًا كافيًا لاستيعابه.

كل الوجوه فى الشوارع، خلت من أى شارب أو لحية.

أما الأغرب، فهو أن النساء مررن عابرات سبيل على تلك الملحوظة، وكأنما لا يصنع هذا فارقًا، أو... متوقع بالنسبة إليهن بشكل ما.

امرأة واحدة انتبهت لأن نافذتها تطل على دار المناسبات، فراعها زحام السيدات أمام الباب الأساسى، بعد أن كان مدخلهم فى الجانب الأيمن من الشارع.

اسمها شيرين، مهندسة برمجيات نزلت صباحًا إلى عملها، وقد علق نفس الانطباع شبكة مشاهداتها، لا شئ ذكورى على الإطلاق، فقط الأرملة المسنة فى الطابق الأول، أغلقت الباب دون سلام فى وجهها، بعد أن حدجتها بنظرة من الأعلى إلى الأسفل.

ثم سائقة للميكروباص بدلًا من سائق، ظنت أنها سيدة مكافحة، عادى.

فى العمل، وجدت زوجة مدير الفرع تجلس على مقعده، وتشرف على نفس الأعمال، بنفس الوتيرة.

الأماكن شاعرة أمام أسماء زملاءها فى دفتر الحضور، والمكان كذلك.

ابتسمت شيرين، فقد راقها –كما ولا تنكر- أن مصدر انتباهها للظاهرة جاء فى الشارع، هذا طبيعى لأنه لا ذكور فى حياتها، ليس سوى أب أهملها تمامًا منذ طلاقه لوالدتها، والمرة الوحيدة التى فعل، عندما جاءها يرغى ويذبد حول:

-  - كيف جرؤت وخلعت الحجاب؟ وماذا سيقول الناس؟ أبلا أب؟

هذا عنها، التفتت أثناء المسير تتصفح وجوه شقيقاتها من بنات حواء، لم تر أى انتباه منهن لغياب نص المجتمع.

أو للدقة، ربما يوقفهن التساؤل بين الحين والآخر لكسر من الثوانى، ثم يتخطونه بسرعة الـ..بسرعة الوميض.. أو بسرعة تلك الخطفة التى تتذبذب بها شاشة الحاسب أمامها، بل كل الشاشات، التلفاز، والهاتف عندما تتصفح به الانترنت، إلخ.

تلك ظاهرة أخرى تضاف للقائمة، تشككت معها، أهو عطل عام، أم يهيأ لها، أم..

أن علاج مرضها النادر لم يأت بنتائج كافية بعد، فتحت وأغمضت عينيها، د.مى أخبرتها أن هذه الحركة لن تفيدها، جسمنا لا يعمل بنفس منطق TE data، لقد ولدت ببطء شديد فى استجابة العصب البصرى، وهذا شئ بالكاد نريد أن ننجح فى تحجيمه، لكن آثاره ستبقى.

لم تعلم أن هذا المرض بالتحديد، هو ما جعلها الوحيدة التى رأت الحقيقة أوضح.

ساعدها كذلك أن ظروف ماضيها المعقد، جعلتها تعلق على شرفة مستقبلها، لافتة بما معناه:

-  - أصدق كذبى، أفضل عندى من أى شئ يأتى من الآخرين، ولو صدقوا.

وهكذا، ولدت نظرية مجنونة فى عقل شيرين فى الربط بين الأمرين، غياب الذكور، (تستخدم هذه اللفظة، لأن لديها قناعة بأنه لا يوجد رجال حاليًا)، وما بين ما طرأ على كل الشاشات.

قرأت فى مكان ما عن الإعلانات الكامنة، لو أن ذاكرتها بحالة جيدة وكان هذه الصياغة الصحيحة للمصطلح.

الفكرة جاءت من حقيقة أن العين لها سرعة معينة فى التقاط الصور، مما يمكنا من دس واحدة بعجلة فائقة أكثر مما يمكن للبصر إداركه، جربوها مرة على شاشة قاعة سينما، وثانية على لوحة أحد الإعلانات الضخمة فوق الكبارى، فراعهم رغم تجاوزها فلتر البصر، أنها ترسب فى خلفية العقل، بل وخلخلت السلوك ونسبة المبيعات إلى الأعلى كذلك.

نظرية غريبة فعلًا، وتعد بأغراض أخطر بكثير من الإعلان، ربما تصل لغسيل المخ.

ومع ذلك آمن قلب شيرين إلى الاقتناع بها، أو للدقة، أوهمت نفسها بذلك، يروقها أن توجد مخططات كبرى، تتعثر فيها بواسطة أداة مرضها، أى -لأول مرة- يحولها ذلك من معاقة إلى موهوبة.

أغلقت الباب على نفسها ، ثم رفعت كاميرا هاتفها، لتصور بها شاشة حاسبها، ثم  الفتت بالعدسة إلى نظيرتها الخاصة بجلال.. زميلها الغائب.

وفى النهاية، أعادت عرض حصاد ما التقطته بسرعة أقل 12 مرة، هذا بمقاييس الجهاز للبشر العادديين، أما هى، فعيونها تراه أبطأ بنحو 20.

اتصلت زوجة المدير تتتعجل تحديثًا معينًا فى قاعدة بيانات الشركة، ورغم أن المسألة لا تستغرق ساعتين، استغلت شيرين  ميزة أن تكون مهندس برمجة تتعامل مع رؤساء عمل خريجى تجارة، لن يحيط أحدهم بأى حدود أو تفاصيل سوى ما تخبرهم به أنت، فأخبرتها المرأة أن ما تطلبه لن ينتهى قبل ظهيرة الغد، ثم أوصدت الخط للتفرغ إلى ما هو أهم.

إلى العالم الذى يتم التبشر بأن خريطته تغيرت.

بدأت مضامين مخبوءة تتضح، جعلت شيرين فى ابطاء المعدل حتى هبط إلى واحد على 30.

-رسم رمزى لحية.. فى البداية وقور ينطق بالحكمة، ومحاط بما يشبه معمل بدائى، وفجأة،  انتزعتها يد مشعرة، ووضعها فى نفق مظلم، حتى ملامح الحية عدلتها الأنامل متسخة الأظافر لترسمها وحشية مخيفة، ثم تمزق المشهد كورقة، بظهور إمرأة أطلقت سهمًا نحو اليد.

تشوشت الصور.. إلى عادت واستقرت على خبر قديم عن المرأة التى اختفت فى شارع محرم بيك، كانت تسير مع زوجها، منذ الذى لا يذكر تلك الواقعة، لقد اختفت وكأن الأرض انشقت وابتعلتها.

الممل أن شيرين تضطر ان تنظر دهرًا ما بين انتظار لقطة ثم الذى يليها.

ارتفع الكادر إلى الأعلى..سيف حجرى يهبط من اللامكان فيشطر الأرض إلى أرضين.. برز من الثانية وجه المرأة المختفة، ومعاه رأس رامية السهام.. ثم ثالثة..ورابعة..وخامسة..

قرأت شيرين سابقًا، عديد من الروايات التى تتحدث عن عالم للنساء فقط، أهناك طرف نجح فى ذلك فعلًا، استخدم هذه الاعلانات الكامنة فى التبشير به؟ أم أن عدم انتظامها فى العلاج جعل مخها يتصور احتمالات هى إلى الخيال العلمى أقرب؟

حسنًا، لو كنت مخئة، فماذا عساه يكون تفسير آخر لاختفاءهم؟

أين اختفى الرجال؟

صعدت درجات السلم ببطء، وهى تعيد مضغ أسلئتها.

زفرت بارتياح عندما لم تجد جارتها الأرملة، بسببها عرفت كيف يمكن أن يكافئ شخصًا تأثير درك كامل من جهنم.

 أسرعت ترتقى الطابق، حتى وصلت لشقتها، أفلتت الحذاءات من قدميها كيفما اتفق، وهى تتجه للشرفة.

تود أن تعود للمشهد الذى تسبب فى ملاحظتها كل ما سبق.

الكنيسة..العزاء.. المرأة الثلاثينية الحزينة على الباب فى طقمها الغامق.

لون الأكمام المبهج تحديدًا راق شيرين كثيرًا، فإذا كان لفت نظرها من كل هذه المسافة، لكم أن تتخيلوا حاضرات العزاء نفسه.

الأغلبية عاقلات وابتلعن الملاحظة سريعًا، لولا أن بدأ الهمس اللامز فى أحد الأركان.. مسم.. انظروا بماذا تحضر عزاء والدتها!

كلمة من هنا، وأخرى من هناك، حتى بلغت الهمهمات إلى أذن شيرين.

تعثرت شيرين فى الأعلى دون سر هذه الجلبة على باب العزاء، فعادت إلى الانغلاق لشئونها، مع احكامها النافذة، وعودتها إلى الداخل.

أدرات الخلاط ليعلو هدير العاتى، وتصطدم بزجاجه دماء ثمرتى الطماطم، هذا يوم جدير بالاحتفال، لقد اختفى الرجال، لديها فضول قاتل حول من تسبب بذلك، وكيف؟ لولا أن فرحتها التهمت أى تساؤلات، لقد اختفى الكم العبء على معادلة الحياة.

رفعت كوب العصير الأحمر إلى فاها، فإذا بمذاقه يعيد إليها ذكرى معينة قريبة.

وضعت الكوب، لتسرع يدها إلى الهاتف، ضربت أحد الأرقام القليلة ذات المكانة الخاصة بقائمة الأسماء:

-         مغلق أو غير متاح.. من فضلك حاول...

كررت المحاولة مرة أخرى، عسى أن يكون الفشل الأول مجرد عيب شبكة.

ثم أفاقت على الواقع، لقد اختفى منذ الصباح كافة الجمع المذكر السالم، فلماذا تتوقع أنه هو بالذات سيغدو استثناءً!

استدركت شيرين رشف العصير ببطء، وصححت خاطرها الأخير، بل منطقى، لطالما أثبت مروان أنه استثناء.

حتى عن شقيقته د.مى التى لاحظت تغير معاملتها لها مؤخرًا.

أخبرها مروان أن أبيه مرحب جدًا بفكرة ارتباطهما، إنه متدين وحج بيت الله، لذلك لا يرى جناية تسوءها فيما بعينيها، أو انفصال والديها.

وعندما سألته عن رأى د.مى، صمت.

تكاد تراها بعين الخيال تنقلب 180% عن الصورة التى تراها، عن ملائكيتها داخل البالطو الأبي بالعيادة، فتعود... أنثى.

-  - أتتزوج من واحدة تكبرك بثلاثة أعوام؟ من واحدة قد تصدمها السيارة فى أى وقت من عبورها الشارع، لأنها ترى متأخرًا عدة ثوان؟ أ...

بترت تخيلات شيرين، عندما سمعت جلبة قادمة من الخارج.

أسرعت، وألصقت أنفها بزجاج النافذة، العزاء تحول بالأسفل إلى تشاجر ممتزج بانهيار من المرأة الثلاثينية، المنظر ككل مسئ جدًا .
بدا جديرًا بـ...همجية الشجارات التى تتورط فيها أيدى مشعرة ذكورية، مثل التى راتها فى الومضات، بيد أن المشهد بالكامل خال هذه المرة من أى يد لآدم، كله بالكامل حواء × حواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"