الخميس، 9 يوليو 2015

(جار المقابر): قصة قصيرة من أدب الرعب



- لا أحد يختار أن يمر فوق أعناق الموتى يوميًا، القدر هو من اختار، فلا تلوموني أنا.
******
في قصص الحكايات، يحجز دائمًا صفحات مميزة عن بطل يتيم.
مضى زمن الأبطال، وبقي اليتماء فقط.
اسمه مهدي.

وهو ممن تستطيع القرية أن تميزهم عن بعد، من قعقعة عربته الكارو بينما هو قادم، لمعة الشمس على الصلع الخفيف الذي زحف ساحة رأسه، طيبته التي تنحدر إلى درجة البلاهة، بينما يرفع صوته قائلًا:
- سلامو عليكو يا حُجيجة.
تصغير حاج، لا يستعمل غيرها لمناداة الآخرين عندما يكون منبسط الأسارير، ولأسباب خاصة به، يُصر أن جمعها (حُجيجة).
لذلك؛ منذ زمن طويل، لم يستخدمها.
من يملك البال الرائق بينما زوجته في بيت أهلها، وفي حوزتها حبة عينه.. ابنه الوحيد.
أرسل كل وسطاء الخير، ينقلون تصميمه على:
- أنا متمسك بك، لا يمكن لولدي أن يكبر بدوني كما.
وذبلت عيناه، مع إضافته:
- كما حدث لي.
المفارقة العجيبة أن زوجته تكن له نفس التشبث، ما العلة إذن؟
كان ياما مكان، أن كان مهدي ولد دون أن يعرف كلمة "أب"، فقط كلمة "عم"، وبمرور زاد عليهما (حاضر) و(نعم).
تستطيع القول أنه من كان يحمل وحده نصف أعباء العائلة، والأعجب أن قلبه النقي يستقبل كل ذلك بمنتهى التصالح.
حتى بعد أن ذهب لخطبة من صارت فيما بعد عروسه، وجد نفسه جالسًا أمام أبيها وحده، وفي أزمة الزفاف، ومصاريفه، لو كان يعمل خادمًا لدى عائلة أخرى، لوجد فيهم خيرًا أكثر من أولئك.
وهذا هو السبب أن أهل القرية يتعاملون مع (مهدي) على أنه أبله، كيف وقد استمر بعدها على نفس محبته لهم، وأن يدعوهم بـ (أعمامي).
بنى بزوجته في بيت أبيها، وأنجب، حتى جاء الوقت الذي تذمر فيه شقيق زوجته - وهي لحظة كانت قادمة قادمة حتمًا- وسأله عن الوقت الذي سيعتقد أنه مناسب لإعداد منزل خاص به.
الحل الوحيد: أن يطلب نصيبه في منزل العائلة الكبير.
فأجابته العائلة ببساطة: تعالى وخذه.
اطمأن قلبه لهذه "السهولة"، ونسي أنه في عالم لا يترك براح لمثل هذه الكلمة.
وعاش في مياه البطيخ، حتى حضر القسمة.
البيوت في الصعيد تبني من أحجار الجبل، تحت أسقف من جريد النخيل فوقها طبقة الطين، هذه السابقة هي الوحيدة القادرة على امتصاص أكثر صهد الصعيد، لكن لا تستطيع تخفيف صهد قلوب من تحتها.
قالوا له أن قطعتك محجوزة، تبني فيها بأي وقت تشاء، تلك التي في أقصى ظهر المنزل، وتطل على... المقابر.
تطل على المقابر تعبير خاطئ، لأنه بين الجدار والمقابر أقل من ربع متر، للدقة إذن هي تقع في المقابر.
جال بخاطر مهدي، أن يستسمحهم في منحه منفذ أو ردهة إلى الشارع الجانبي، لكنه استحى، وأبلغهم من خلال أقارب مشتركين، فردوا عليه مسبقًا بنظرات مرثية، إذا كانوا لم يعتبروك منهم يومًا لدرجة أنهم لا يسألون عنك، هل يمنحوك مترًا واحدًا من أرضهم؟!
زوجته البطلة تقبلت الوضع، وعادت إلى المنزل، حاولت أن تتخيل نفسها على صورة أخرى، من قبيل أن جوار الأموات خير من الأحياء.
عائلة رضوان قبالته، أتت بجرافات وسوت المقابر لتوسع لنفسهم شارعًا، قيل له هذه المعلومة على سبيل الاقتراح، فاقشعر جسده لمجرد تخيل الصورة.
*********
- أوه يا عمو.. عمو.. لقد صدمتنا أثناء مرورك.
كبح مهدي خطواته، والتفت إلى الصوت المباغت الذي استوقفه، بصيحات طفولية لحوحة.
وما إن أكمل استدارته حتى انتبه أنهم طفلان.. بل ثلاثة.
صبيان وفتاة بملابس نظيفة وسمت ملائكي، شيء مختلف تمامًا عن دأب أطفال القرية الذين يكادون يقدسون الاتساخ.
- ماذا تقولون يا أولاد؟! لقد كنت منتبهًا جيدًا، وأثق أن هذا لم يحدث.
قلب أطولهم قامة شفتيه بحزن، وكرر وكأنه لم يسمع:
- صدمتنا وآلمتنا كثيرًا.
ما قبل.. كانت كتفا مهدي ترسمان رقم  ثمانية، من جبلي الهموم اللذين تراكما عليهما.
ما بعد.. استقام الكتفان قليلًا عندما مسح عنهما هذا الموقف الكثير من عنائهما.
السمت الملائكي الذي ينسكب من ملامح الأطفال مس الوتر الأكثر حساسية داخله، عبثت أنامله داخل جيبه، تصطاد بعضًا من الحلوى التي كان يدخرها لابنه في المنزل.
- إذن حقك، على عمو يا سيد عمو.
دس الحلوى في أيديهم وانصرف.
فبانتظاره طريق أوعر من الشوك، ويرغب في التعجيل بهذا البلاء بدلًا من انتظاره، وهل يوجد طريق أوعر إلى منزلك، من أن يكون طريق المقابر.
- ما الذي أجبره على هذا المر؟!
- الذي أمر منه..
أودع عربة الكرو في حظيرة أعمامه، ثم خرج من المنزل ليدور من الناحية الأخرى، حان الآن موعد قشعريرة كل يوم، بحسب التوقيت المحلي لمدافن القرية.
عشر خطوات تفصله عن المنزل.. قبر كبير يدل على أنه لرجل ضخم الجثة.. سبع خطوات.. وبقايا شاهد قبر يدل على أنه لامرأة تقريبًا.. ليس متأكد.
تبقت أخيرًا المرحلة الأصعب.. قبور مبعثرة بغير ترتيب مستقيم لا يزيد طولها عن المتر..  أي تشي بوضوح أنها لأطفال.
لاحت لمهدي تفصيلة أخيرة جمدت الدماء في عروقه.
ثلاث قطع حلوى مغروسة وموزعة على ثلاثة من القبور الصغيرة.
نفس ألوان القطع التي أعطاها للصبية منذ قليل.
 الآن فقط علم مهدي:
-  لماذا لم يتعرف الصبية رغم صغر القرية، وأن كل أهلها يحفظون بعضهم البعض صغارًا وكبارًا!!
-  فهم كيف يؤكد الصبية أنه صدمهم أثناء مروره، الآن فهم أين يقصدون أنه فعل!!
تحدرت دمعتان على وجنة الرجل، حتى أخذتهما الجاذبية في رحلة سقوط حر، إلى أن وصلا وقبلا الأرض.
انحنى عنق مهدي وهو يطرق برأسه إلى الأسفل بحزن، ويجد نفسه يتابعهما.
فجأة، لاحظ – حيث حطت الدمعتان أسفل قدميه- كتابة خطت على الأرض بحروف ساذجة، كطريقة صبي في أول سلمة من تعلم الكتابة، هي بالتحديد بضعة حروف تقول:
- "لا تؤلمنا، واعبر برفق".
(تمت)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

"